في الوقت الذي امتازت به كتابة السير الذاتية عن بقية الأنواع السردية بأنها نافذة نطل منها على التجارب الشخصية لكتّابها، أو من يسردون مشوارهم فيها، وأنها بمثابة الاستعراض الصادق لتجاربهم، إلا أن تلك التجارب بقيت محكومة في مجتمعاتنا، وعلى الأخص حين تكون سيرة ذاتية لكاتبتها بالافتقار إلى ثقافة البوح، وتجنب الغوص في مناطق الأشواك المخفية والمحظورة من حياة الكاتبة بداعي الخوف والقلق من ردة فعل المجتمع، وهذا ما جعل كتاب السيرة الذاتية من الرجال أكثر إنتاجا وأشد تحررا وقدرة على سرد التفاصيل فيها وسط غياب بارز للأديبات، ومن هنا شهدنا ما يشبه الاكتساح الذكوري لكتابة السير الذاتية، مقابل محاولات ضئيلة العدد من بعض الكاتبات على كتابة سيرهن الذاتية.

عربيا برزت أسماء رائدة في السير النسوية، مثل لطيفة الزيات، ونوال السعداوي، وفدوى طوقان، وغيرهن، حيث شهدت السيرة الذاتية النسوية نشاطا كبيرا حتى نهاية القرن العشرين.

أما في السعودية تحديدا، فوجدت الأديبات في الوسائل الأخرى ملاذًا آمنًا للكشف عن سيرهن الذاتية وسرد تجاربهن بأسلوب غير مباشر، عبر الرواية والمقالة واللقاءات الصحفية والقصص القصيرة، ولم تظهر السيرة الذاتية الصريحة إلا على يد قلة منهن، مثل ليلى الجهني التي كتبت سيرتها «أربعون.. في معنى أن أكبر»، والتي تلتها عدة سير ذاتية نسائية، مثل سيرة أميمة الخميس «ماضي مفرد مذكر»، وسيرة هدى الدغفق «أشق البرقع.. أرى»، ثم تسارعت الوتيرة قليلا بعد أن تحسنت الظروف الاجتماعية إلا أن المقارنة لصالح الكتاب الرجال.


التربية وقمع الشجاعة

تلعب عدة مؤثرات وشروط دورها في مواكبة فعل الكتابة الأدبية عند الكاتبة السعودية، وتقول الكاتبة السعودية هدى الدغفق «تتطلب كتابة السيرة الذاتية شجاعة أدبية، ومقدرة على المواجهة بمسؤولية تنبع من الذات، وهذه الصفات غالبًا ما تسعى التربية الاجتماعية في مرحلة سابقة إلى قمعها في الشخصية المؤنثة».

وتتابع «أعتقد أن الرقيب الشخصي والأسري من ضمن الأسباب التي تجعل المرأة تتحسب كثيرا قبل الإقدام على كتابة سيرتها، لأنها ستواجه بالرفض والغضب وعدم الرضا عليها من طرف الأقارب، ومن ثم أسرتها، حيث تفرض السيرة الذاتية على كاتبتها أن تكون ذات إرادة خلاقة، فلا تترد في البوح بتفاصيل ذكرياتها ومواقفها وتجاربها وردود أفعالها إزاء ذلك كله، حيث ينبغي أن تكون الذات الكاتبة قد تمرنت على مهارة تحليل الأحداث التي ترويها مثلا.

معنى هذا أن تتقمص مؤلفة السيرة أكثر من دور لتكون ذاتها الكاتبة مرة وذاتها الراوية مرة أخرى، أي أن تتنقل بين حالتين متضادتين من الكتابة نوعًا ما، وهما تعبيرها ووجهة نظرها حوله، هذه الازدواجية في تراكيب الكتابة "السيرذاتية" تبدو معقدة بعض الشيء، وتتطلب خبرة أدبية وقراءات نماذج متعددة من السير الذاتية المطبوعة من قبل.

وقبل ذلك كله.. أن تتحلى كاتبة السيرة بإرادة الاعتراف لتستطيع إنجاز سيرتها بكل ما فيها من مواقف محرجة.. غاضبة.. موجعة.. فاضحة، وما شابه ذلك».

التحيز ضد الكاتبة

تشدد الأستاذة الدكتورة فوزية بكر البكر على الإطار الثقافي المتحيز ضد الكاتبة، والذي يحكم أدق سلوكياتها، وتقول «القيم الثقافية والعوامل الاجتماعية بما فيها التوقعات حول موقع المرأة في المجتمع وما تمثله للعائلة وللأسرة تحديدًا تجعل المرأة الكاتبة في موقع صعب للتعبير حتى عن خبراتها اليومية الاعتيادية، فما بالك بالسير الذاتية المشحونة بكل خبرات الحياة بسلبياتها وإيجابياتها، وما خفي منها وما ظهر.

والثقافة بمفهومها العام الذي حدده إدوارد تيلر (أشهر من كتب حول الثقافة) تعني كل ما حولنا من رموز مادية وغير مادية ذات علاقة بالتقاليد والأعراف والممارسات السائدة؛ لذلك فالمرأة محكومة بالإطار الثقافي العام الذي تعيش فيه، وهو إطار متحيز ضدها بالضرورة، وحتى مع محاولات التمكين الرائدة إلا أن المرأة محكومة بالتكوين الثقافي العام الذي يحكم أدق تفاصيل السلوك والممارسات.

وهكذا تمثل المرأة في الثقافة العربية وفي المخيال الجمعي رمزًا ثقافيًا وقبليًا تتلبسه القبيلة والأب والأخ والزوج والابن، بما يسقط على كاهل المرأة عبء الحفاظ على هذه التوقعات ولو ظاهريًا، فالبيوت مليئة بأسرارها، لكن لا أحد يجرؤ على التصريح بها، فلماذا نتوقع من الكاتبة السعودية أن تكون فوق هذه التوقعات.

لذا فحيلة استخدام الرواية كغطاء مناسب حيلة مستخدمة منذ الأزل لسرد الخبرات الذاتية تحت غطاء روائي يقبله القارئ، ولا يمثل حرجا للمرأة الكاتبة، التي هي في النهاية ملك للمؤسسة الاجتماعية التي تنتمي إليها، وتحديدًا الأسرة».

الخوف من المحاكمة النمطية

ترى الكاتبة حليمة مظفر أن التحسب في كتابة السير الذاتية ليس ملحوظا لدى الكاتبات وحدهن، بل حتى لدى الكتاب الذكور الذين أقدموا على كتابة سيرهم، وتقول «قلة توجه الكاتبات والأديبات إلى كتابة السيرة الذاتية كتجربة حياة أمر متوقع، وحتى الرجل لدينا وإن كتب تجربته في الحياة فإنه لا يبوح بكل شيء، كما نرى في أدب السيرة الذاتية لدى الغرب.

لا يزال الرقيب الذاتي في هذه التجارب الأدبية مسيطرا وقلقا من المجتمع الذي لم يتعود سرد هذه التجارب بشفافية عالية، فما بالك إذا كتبتها امرأة فإنه حتما إذا كتبت كل شيء في تجربتها الحياتية، فربما تصادمها ثقافة نمطية ستعمد إلى محاكمتها ثقافيا وربما اجتماعيا؛ لهذا تفضل معظم الكاتبات ممن لم يتحررن فكريا من تجاربهن إلى دسها في السرد الروائي كأسلوب هروب من المواجهة، في خطاب غير مباشر، وهذا حق الروائي أن يستفيد من تجاربه الحياتية في سرده، المهم أن يكون أو تكون مقتنعة في ذلك، وعموما ربما مع تطور الذائقة الثقافية تتجه بعض الكاتبات إلى كتابة وسرد السيرة الذاتية إن كانت تستحق السرد».

جنس أدبي ذكوري

يعود الدكتور صالح معيض الغامدي إلى تاريخ ذكورية السير الذاتية كجنس أدبي، وبدء ظهور السير الذاتية النسائية فيقول «على الرغم من أن السيرة الذاتية عرفت بوصفها جنسا أدبيا في الأدب العربي القديم قبل أكثر من ألف عام؛ فقد كانت حتى وقت قريب جنسا أدبيا ذكوريا صرفا، هذا إذا استثنينا بعض المرويات من السير الذاتية النسائية التي جاءت في معظمها عن طريق الرواية الشفوية، وقد عادت السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث ليس امتدادا للسيرة الذاتية العربية القديمة؛ بقدر ما هي تقليد للنماذج الغربية للسيرة الذاتية.

ووفقًا للدكتورة أمل التميمي؛ فإن نزعة السيرة الذاتية النسائية بدأت في أوائل القرن العشرين على شكل مقالات ذات طابع شخصي في الأساس، ومع ذلك، لم تظهر السيرة الذاتية النسائية بوضوح إلا في الخمسينيات من القرن الماضي؛ لتصل إلى مرحلة النضج في الثمانينيات منه».

ولادة السيرة الصريحة

يتابع الغامدي «كان الحال في السعودية مختلفا إلى حد ما في تأصيل تاريخ نشأة السيرة الذاتية النسائية فيها، فلم تظهر السيرة الذاتية النسائية الصريحة المقصودة إلا في عام 2007، عندما كتبت مرام مكاوي «على ضفاف الهايد بارك» مذكرات طالبة سعودية، وتلتها في 2010 ليلى الجهني التي كتبت سيرتها«أربعون.. في معنى أن أكبر»، ثم تلى ذلك ظهور عدة سير ذاتية نسائية، مثل سيرة أميمة الخميس «ماضي مفرد مذكر»، وسيرة هدى الدغفق «أشق البرقع.. أرى»، وغيرها من السير الذاتية الأخرى التي أخذت في الظهور بوتيرة سريعة نسبيا، نظرا لتحسن الظروف الاجتماعية التي كانت تقيد المرأة سابقا.

ونظرا لمساحة الحرية النسبية المتاحة للمرأة في كتابة الحياة والبوح بمكنوناتها، وأيضا لإدراك المرأة أهمية هذا النوع الأدبي في التعبير عن الذات النسائية وطرح قضاياها المتعددة، وأخيرا نظرا للاهتمام الواضح في رؤية 2030 بتمكين المرأة في شتى مجالات الحياة، ومنها كتابة سيرتها الذاتية والتعبير عن قضاياها وهمومها».

الممرات المظلمة

يطرح الدكتور جزاع الشمري مجموعة من المسببات التي تتعلق بتاريخ المرأة وطبيعتها، ويقول «نجد نماذج من السير لكاتبات وأديبات في السعودية إلا أنها قليلة مقارنة بسير الكتّاب السعوديين. وإن دل هذا فإنه لا يدل على عجز الكاتبة عن الكتابة أو ضعفها، بل هي تشارك الرجل ذلك، وربما تتفوق في كثير من كتابة الأجناس الأدبية الأخرى، كما أنها تشاركه في الوجود والمصير والحياة والموت والاحتياجات الذاتية، وغيرها من حاجات الذات المتنوعة. إلا أن قلة حضورها في مستوى كتابة جنس السيرة الذاتية يعود ربما إلى مجموعة مسببات، بعضها تشترك فيها المرأة، ومن ذلك الجانب الحسي لدى الكاتبة أعمق من وجوده لدى الكاتب، فتنجذب الكاتبة نحو العودة إلى طفولتها ومرحلة حياتها الماضية، قد يخرجها من إطار البناء السردي إلى التلقائية، فهي عاطفية بطبيعتها وأكثر حساسية.

ولعل الجانب التاريخي للمرأة في الماضي، وما كانت تعانيه من قهر وانغلاق واستلاب فردي ومجتمعي، أو حسب عبارة فيرجينيا وولف، «تلك الممرات المظلمة في التاريخ»،، يصعب عليها التعبير بشفافية، فتخرج في خطابها عن الذات إلى هوة أخرى.

البعد النرجسي في كتابة المرأة عن ذاتها في تجميل الصورة في نسيج خطابها الذاتي، ولعل أيضاً حساسيتها وخشية وقوعها في المحظور الديني أو الاجتماعي أو الأعراف والعادات والتقاليد التي نشأت فيها تجاه ما تطرحه من قضايا، فتلجأ إلى كتابة النصوص القصصية والروائية؛ بوصف مرجعها التخييلي الذي يمكنها البوح عن ذاتها بشكل أكثر حرية، دون مراعاة لردود الفعل من المتلقي والحرج الذي قد تتلقاه من ذلك، وتعزف عن الكتابة الذاتية الصريحة، وعدم إلصاقها بتجربتها الشخصية».

التمكين والجرأة

تؤكد الباحثة القاصة الدكتورة عائشة الحكمي ما تتطلبه كتابة السيرة الذاتية من جرأة لطرح الذات، وترى أن الكاتبات تمكنّ منها، وتقول «السيرة الذاتية جنس سردي ينهض على استعادة الماضي بقلم الكاتب، يتطلب رغبة واهتمام المبدع لطرح ذاته للآخر، ويستند إلى قناعة وإخلاص تامين بأهمية الكتابة في هذا النوع، ويحتاج النظرة الشمولية للبيئة الاجتماعية والثقافية.. هل هي مستعدة لاستقبال عمل سيري بنظرة واعية شمولية، وليس بنظرة ذاتية؛ أي نظرة موضوعية وفق أهمية العمل للبعد الإنساني التاريخي الاجتماعي الفكري.. هل يضيف بصمة مختلفة.. هل يقدم رؤية تخدم الإنسان الآن والقادم.

أعتقد النظرة الاستقلالية الشمولية ما زالت تتقوقع حول المحدود؛ بمعنى ينظر السيرة الذاتية هل سنجد فيها المستور في الشخصية الكاتبة، وإذا وجد يعاب، وإذا لم يوجد ينتقص؛ أي إذا كتبت السيرة الذاتية بقلم كاتب أو كاتبة سترصد وتقيم وفق الرؤية المجتمعية الكلية التي يحكمها مزاج العائلة والقبيلة والعيب والحرام، والبعض ينظر لها على أنها كتابة ليست مهمة، ممكن تحرق أفكار الكاتب فيحرم من توزيعها على مشاريعه المستقبلية.

ما زالت السيرة الذاتية في الثقافة السعودية غير معروفة، مثل الرواية أو القصة والمسرحية، وهذه كي تشيع أخذت زمنًا كافيًا حتى تخرج من دائرة الازدراء، سواء كنص منتج أو نص يستقبل.

والكاتبة السعودية قبل عشرات من السنوات ممكن تتصف إسهاماتها في كتابة السيرة الذاتية بالندرة، لكن في هذه المرحلة والقادمة تسعى الكاتبات إلى الانخراط في الكتابة السيرية بقناعة، والواقع يشهد تجارب عدة، منهن (هدى الدغفق، أميمة الخميس، ليلى الجهني، بديعة كشغري).. فقد قدمن أعمالًا جيدة تستحق القراءة والاحتفاء.

وبعد اتساع سقف تمكين المرأة السعودية في الحياة العامة والخاصة، وارتفاع منسوب الثقة في دورها، وحضورها القوي في مفاصل التأهيل والخدمة تلوح المؤشرات على إزاحة الستار عن التحفظ حيال مشاريع الكاتبات السيرية، فظهرت سير (فوزية أبو خالد، خلود العجب، ريم النخيش، أمل التميمي)، وغيرهن كثيرات، فقد لاحظت إحدى الباحثات حين طرحت فكرة كتابة فصول من السير الذاتية لعدد من الكاتبات إقبالا كبيرا، وتفاعلا مدهشًا في المشاركة، ووقفت على تجارب لافتة، أعتقد تجربة تؤشر إلى استبعاد ندرة اتجاه الكاتبات نحو مشاريع السير الذاتية.

أما مسألة لجوء البعض إلى كتابة سيرهن كنص مستقل فلا يقتصر على الكاتبة، كذلك الكتاب أيضًا، نفس العزوف، يفضل الكاتب أن يفيد من ذاته في صناعة مشاريع قصصية وروائية يتكئ عليها، وممن يرى ذلك الروائي عبده خال..

فكرة ممارسة ضغوط على الكاتبة واردة بسبب العوامل التي أشرت إليها سابقًا، لكن بدأت تتزحزح تلك الضغوطات.. وتبقى الكرة في مرمى الكاتبة، هي من تتحكم في مشاريعها، فمن تستطيع كتابة القصيدة والرواية والقصة والمقالة باسمها الصريح، وتحرص على إصدار الكتب، وتظهر إعلاميا في كل الوسائل والمنصات والمؤتمرات واللقاءات، أمورها بيدها تستطيع أن تكتب سيرتها الذاتية باسمها ورسمها، وبجرأة وبعضهن مدعومات من مجتمعهن».

كاتبات سعوديات كتبن السيرة الذاتية

هدى الدغفق

أميمة الخميس

ليلى الجهني

بديعة كشغري

فوزية أبو خالد

مرام مكاوي

خلود العجب

ريم النخيش

أمل التميمي