في الفكر السياسي المعاصر يُطلق مصطلح «معارض» أو «معارضَة» على من يعملون ضمن نظام الدولة في طرح برنامج لإدارتها يختلف عن برنامج الحكومة الحالية، ويعملون على إقناع الناخبين ببرنامجهم كي يَحُلوا في المستقبل محل هذه الحكومة.

وأثناء أدائهم السياسي كمعارضة فإنهم يبقون منصاعين تمام الانصياع لكامل الأنظمة التي يختلفون معها، ولا يخرجون مطلقًا عن الولاء لدولتهم أو مساندة خصومها عليها، ولا يتلقون أي معونات من دول أجنبية كثمن لمعارضتهم.

وحين يخرج أي معارض عن هذا الإطار، فيخالف الأنظمة أو ينكر مشروعية الدولة أو يعمل تحت إمرة دولة أخرى في مواجهة دولته، فإنه لا يكون مُعَارِضًا، بل مجرمًا متمردًا، مطلوبًا لعدالة بلاده، هكذا ينظرون إلى من يسعى لإسقاط أي نظام غربي، أو لا يدين بالولاء له، أو يسعى لأي نوع من الإضرار به، لكنهم فيما يتعلق بالعالم العربي والإسلامي لا يُفرقون بين الظالم والمظلوم، أو بين المجرم وصاحب الحق، فكل من ادعى أنه مختلف مع دولته سياسيًا اعتبروه معارضًا سياسيًا وفتحوا له بلادهم للإقامة والعمل الإعلامي والسياسي، دون تفريق بين مضطهد حقًا محروم من حقوقه الإنسانية ويريد الفرار بدينه أو نفسه أو ماله أو أهله من أي نوع من الانتهاك، وبين إنسان يريد فقط الاستقواء على بلاده بدول الغرب ليُلحق بها أو بحكامها الأذى، ولذلك لا ينبغي أن نستجيب لما يفرضه علينا الإعلام الغربي من مصطلحات فنسمي كل مناهض لبلاده مقيمًا لدى الغرب معارضًا سياسيًا؛ كما أن دَعاوى الإصلاح لا ينبغي أن تستخفنا لقبول مثل هذا النوع من التمرد، فإن الإصلاح لم يكن يومًا من الأيام طَرِيقُه الإفساد، ولا أعظم إفسادًا من اللجوء في دول الغرب تحت مزاعم الإصلاح من خلالها؛ نعم يمكنك الإقامة هناك لأنك تستطيب ذلك وترى المقام في أوروبا أروح لنفسك، أو لأنك ترى باب الرزق أفسح لك هناك، أو لأنك تشعر بالاضطهاد في بلدك أو تخشى من سطوة النظام عليك لأي سبب كان، كل ذلك ممكن، لكن الذي ليس مقبولًا منك أنك هناك من أجل أن تصلح بلدك، حتى لو كانت بلدُك أفسد بلاد الأرض، فلن يكون الغرب مصدر إصلاحها أو سببًا فيه؛ ومن يدَّعي ذلك هو أعلم الناس بأن هذه الدول لم تستضفه حرصًا على صلاح بلاده وإصلاحها، وإنما لتتخذ منه مادةً للتأمر عليه، وسكينًا مُخبأةً تطعن بلاده بها في الوقت الذي تراه مناسبًا.


ألا ترى كيف احتلت الولايات المتحدة أفغانستان باسم أمثال هؤلاء الذين زعموا لسنوات طوال إصلاح أفغانستان من خارجها!

ثم عادت واحتلت العراق بأمثالهم من العراقيين!

ثم لم يزد هؤلاء أفغانستانَ والعراقَ إلا أذى وتدميرًا.

ولا نعني أن أفغانستان والعراق كانتا في أحسن أحوالهما، وأن الولايات المتحدة وصنائعها من الأفغان والعراقيين هم وحدهم من أفسدها؛ بلى هما كانتا في حال عظيم من الحاجة إلى الإصلاح؛ لكنهما حالتان تُنبِئانك أن دعوى الإصلاح من منابر الغرب دعوى كاذبة، وليست سوى رُقَى شيطانية تستفز بعضَ العقول والقلوب لإحداث حالٍ من الفوضى تجعل البلاد مهيأة لكل أنواع الاختلال الأمني والديني والاجتماعي.

ويَزِيدُكَ عن فساد دعوى الإصلاح من منابر الغرب، أن بلاد أوروبا كانت من أعظم مصادر الإفساد في بلاد المسلمين منذ الحروب الصليبية، مرورًا بمرحلة الاحتلال الأوروبي للعالم الإسلامي بأسره خلا المملكة العربية السعودية، وانتهاء بمرحلة ما بعد الاستدمار المسمى استعمارًا التي لا تزال قائمة حتى اليوم، حيث مازال الغرب يتحكم في أكثر البلاد التي كانت محتلة من قِبَله في ثرواتها وسياساتها، ويسعى جاهدًا في نكب من تَخْرُج منها عن سيطرته، ولم تزل منذ الاستعمار المزعوم حتى اليوم أعظم مصادر الإفساد في الدين والأخلاق بين شعوبها، وبين شعوب المسلمين، والعجيب أنها تُسَخِّر سياستها واقتصادها وإعلامها لنشر قِيَمِها الفاسدة بين البشر، ولن يكون آخرها حملاتُهم الوسخة هذه الأيام، والتي يعملون فيها على فرض أقذر الفواحش بين أمم الأرض، ويعتبرون الدول التي لا ترتضي رؤيتهم الهابطة في الدين والمرأة والعلاقات الجنسية القذرة دولاً مارقة خارجة عن الاتفاقات الدولية كاتفاقية السيداو وعن مقررات المؤتمرات الدولية المتعلقة بالأسرة والمرأة والطفل والسُّكَّان؛ وكذلك فإن لدول الغرب اليد الطولى في الحيلولة بين دول كثيرة من دول العالم الإسلامي وبين إعلان تطبيق الشريعة ؛ بل إن دساتير الدول الإسلامية يَنْظُر كَتَبَتُها بعين الاعتبار إلى موقف دول الغرب حين يصوغون المواد المبدئية في الدساتير، فيسعون لإيجاد عبارات. تُطَمْئِنُ الدول الأوربية من أنها لن تُقَرِّر تطبيق الشريعة.

أضف لكل ذلك أن معظم الأنظمة الفاسدة في العالم الإسلامي كلِّه، والتي ثبت ظلمها وجورها، صنعتها دول الغرب أو أسهمت في صناعتها.

وإذا قلنا: إن التخلف الصناعي والزراعي أحد أنواع الفساد في دول المسلمين، فإن الغرب هو من يحول دون تصدير التكنولوجيا إليها ويعملون بكل مكر لإضعاف العمل الزراعي فيها، كي يبقى عالمنا الإسلامي مستهلِكًا مستهلَكًا، ويبقى الغرب هو المتحكم الأول في جميع حاجات المسلمين الغذائية والصناعية، وهو المسؤول عن فرض النظام الاقتصادي السيئ الذي أوقعهم هم أنفسهم كما أوقع جميع دول العالم في الائتسار للديون وما يجلبه من المشكلات الاقتصادية المستعصية على الحل دوليًا كالتضخم ونمو الفقر والبطالة، ليصبح العالم كله مرتهنًا لحفنة ضئيلة من الأغنياء الذين بيدهم ما يزيد على السبعين في المائة من مال العالم، في أزمة احتكار مالي لم تعرفه الأرض قط إلا في زمن سيادة الحضارة الأوروبية.

فأي إصلاح لبلداننا يزعم هؤلاء القابعون في الأحضان الأوربية أن عواصم أوروبا مُنْطَلَق له، مع أن تاريخها وواقع حالها مع البلدان الإسلامية يشهد بأنها مصدر الإفساد الأول،

وهي حقيقة مقررة أكثر من يعرفها هم أدعياء المعارضة السعوديون في لندن وغيرها من العواصم الأوروبية، كما يعرفون جيدًا أنهم بتورطهم بزعم هذه الصفة لم يعودوا أكثر من عملاء تستخدمهم الاستخبارات العالمية بمثابة طائر البوم في الثقافة الأوروبية حيث يُمَكِّنُونَهُم فقط من النعيق على بلدانهم بكل سوء، أما هم فجميعهم ليس لديهم أي برامج إصلاح أو دعوات حقيقية له،بل ليسو مؤهلين لذلك علميًا ولا سياسيًا، ولا يملكون التأهيل العقلي له، وإن كان بعضُهم قد أهَّلته جامعات المملكة العربية السعودية للنجاح في تخصصات دقيقة كالفيزياء وطب الأطفال والعقيدة، إلا أن النجاح في تخصص معين لا يعني القدرة العقلية على التمييز بين الخير والشر، والوعي بالواقع وكيفية التعامل معه وتجنب مخاطره، والعبور من خلاله إلى المستقبل بسلام، وهو العقل الذي يعرف صاحبه ما هو الممكن في حال وغير الممكن في حال أخرى، وكيف يستعيض عن غير الممكن بما هو أقرب للخير وأبعد عن الشر، والتمييز بين الضرر اليسير والضرر الأكبر بحيث يمكن دفع الثاني بالأول، فهذا العقل لا يملكونه؛ وإنما يملكون الطفولية التي تجعل صاحبها يريد ويريد ويريد، ولا يعرف ولا يرغب في أن يعرف ماذا يكتنف إرادته من مخاطر ومضار وأهوال، لذلك تراهم ناقمين على كل شيء، حتى الأشياء التي لا يمكن أن يختلف الناس الأسوياء على حسنها.

يؤكد لك ذلك الاطلاع على ما يقولون ويكتبون، فهم أولاً لا يقومون بأيسر شيء يمكن أن يقوم به من يدعي المعارضة وهو تقديم نموذج مثالي صحيح يريد أن تحتذيه بلاده؛ ومتابعتك إياهم تخبرك أنهم عاجزون أشد العجز عن تقديم دولة في العالم يَقترحون أن تكون السعودية مثلها إجمالًا؛ أما تفصيلًا، فلكل دولة ما تتميز به، لكننا عند النظر الإجمالي سنجد السعودية من أفضل دول العالم عيشًا لمواطنيها، وهذه النظرة الإجمالية لا تعني انتفاء الخلل، أو عدم وجود القرارات التي يمكن أن يختلف معها أي مواطن وفقًا لمدى تلبيتها لاحتياجاته الشخصية، أو وفقًا لمدى توافقها مع توجهه الفكري، نعم ذلك موجود، وهو أمر طبيعي، أما أن ننظر إلى الأمور كما ينظر إليها أدعياء المعارضة ممن تَعْشَى أعينُهم عن نظر أي خير في بلادهم كي يُبَرِّرُوا استقواءهم عليها بالغرب، فهذا هو التحريض الذي لا يستفيد منه إلا أعداء الإسلام والمسلمين الذين يعمل هؤلاء الأدعياء في خدمة مأربهم وفي أرضهم وتحت حمايتهم.

والأعجب أن من هؤلاء الذين يستقوون بالغرب اليهودي والنصراني والملحد على بلادهم أناس يزعمون الانتماء للتوجه الإسلامي ويحفظون جميع آيات عقيدة الولاء والبراء، وما أكثر ما طبقوا هذه الآيات بشكل اعتسافي غير علمي على بلادهم مرةً حينما انتقدوا استعانتها بالقوات الغربية ضد صدام حسين، ومرات كثيرة حين يتهمونها بأنها عميلة للغرب وصنيعة للغرب ومطيعة للغرب، ومع كل ذلك لا يستحون أن يخالفوا كل ما يقولون ليستعينوا على بلادهم بالغرب نفسه الذي يعيبون على بلادهم الاستعانة به، وأرذل من ذلك أن أحدهم يسمي الدول الغربية نجاشي هذا العصر تشبيها لها بالملك النجاشي رضي الله عنه الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم (لا يُظلم عنده أحد) فانظر إلى مستوى التزوير حين يصف الدول التي مازال ظلمها جاثمًا على أمة محمد بالوصف النبوي الكريم.

برنامجهم الوحيد، وطموحهم الذي لا يستطعيون غيره هو انتظار الدبابة الأوروبية التي يُدعون إلى ركوبها للإسهام في احتلال بلادهم، كما فعل بعض زعماء المعارضة الليبية الذين قدموا إلى ليبيا على طائرات الناتو بعد إسقاط نظام القذافي، ليشاركوا في الحرب الأهلية ويزيدوا بؤسها أيام القذافي بؤسًا أعظم منه بمراحل عظيمة.

إن الإصلاح تحت عباءة الغرب وتحت مظلته ومن عواصمه كذبة كبرى وخيانة عظمى لا يُصدِّقها إلا من في قلبه وعقله زيغ ولا يعمل بها إلا من يتفق الشرق والغرب على خيانته.