لا يعنينا في هذا المقال سوى المقاربة السياسية المعقولة وفق استقراء متواضع هدفه (نقل الفقه السياسي إلى من هو أفقه)، نبدؤه بما ورد في كتاب (لماذا يكذب القادة؟ حقيقة الكذب في السياسة الدولية) تأليف جون جي ميرشيمر إذ يقول: (قد يكذب القادة لتغطية موضوع مثير للجدل لأنهم مقتنعون بأنه سليم إستراتيجيا، ولكنهم يريدون إخفاءه عن جمهورهم، أو ربما عن الدول الأخرى، والمعنى الضمني هنا أن أغلبية مواطنيهم ليست لديهم الحكمة الكافية لإدراك المعاني والمضامين البعيدة لهذه السياسة، لذا فإنه من المنطقي للقادة تبني إستراتيجية أو سياسة ما وإخفاؤها عن الجمهور.....
كانت جهود الرئيس جون كنيدي المضنية لحسم أزمة الصواريخ الكوبية بطريقة سلمية مثالًا حيًا لرئيس يكذب من أجل أن يخفي سياسة مثيرة للجدل، ولكي ينهي الأزمة قبل أن تتصاعد إلى حرب بين القوتين العظميين، وافق كنيدي على طلب السوفييت أن تسحب الولايات المتحدة منظومة صواريخها النووية جوبيتر من تركيا، مقابل سحب السوفييت صواريخهم أيضًا من كوبا، وكان الرئيس كنيدي يعلم تمامًا أن هذا التنازل قد لا يقبله الرأي العام الأمريكي، وكذلك اليمين السياسي، ويمكن كذلك أن يؤثر سلبًا في علاقة واشنطن بحلفائها في حلف الناتو، وبالأخص تركيا، ولذلك اشترط على السوفييت ألا يتحدثوا عن هذا الاتفاق علنًا، وإلا فإنه سينكره ويتراجع عنه نهائيًا، وعلى الرغم من كل هذه الحيطة والحذر في إخفاء المعلومة، كانت هناك بعض الشكوك في الغرب بأن اتفاقًا قد أبرم، وقد وجهت أسئلة بهذا الخصوص إلى الحكومة الأمريكية، كذب الرئيس وكبار مستشاريه، وأنكروا وجود اتفاق لسحب منظومة صواريخ جوبيتر من تركيا...).
هل أمريكا ترى أن روسيا لم تمس خطوطها الحمراء؟ أم أنها تغض الطرف مرغمة كما فعلت فرنسا الآن في مالي وتشاد لتنافسها روسيا على مستعمراتها القديمة، فالعالم يتشكل كنوع من توزيع الأحمال والضغوط بالتساوي على الدول العظمى بعد انسحاب أمريكا من لعب دور (القطب الواحد) الذي أعلنته منذ أكثر من عقد، ومنذ ذلك الحين (وجعيع أمريكا أكثر من طحينها)، لأنها أرادت صناعة شركاء وفق مقاساتها الخاصة، والدول العظمى (دائمة العضوية في مجلس الأمن) تريد الشراكة وفق مقاس متفق عليه وليس خاصًا بأمريكا وحدها (لم تعد أمريكا تفصل والعالم يلبس) بل هناك دول رأت أنها تستطيع المشاركة في الخياطة ووضع المقاسات (حتى من خارج الدول الخمس لمجلس الأمن)، وهنا ننتقل إلى هنري كيسنجر في كتابه (النظام العالمي) الصادر عام 2014 وتحت عنوان فرعي بعنوان (إلى أين نحن ذاهبون من هنا) ما نصه: (إذا أرادت الولايات المتحدة أن تضطلع بدور مسؤول في تطوير نظام عالمي يخص القرن الحادي والعشرين، فإن عليها أن تكون مستعدة للإجابة على عدد من الأسئلة التي تخصها:
1/ ما الذي نسعى لمنعه، بصرف النظر عن كيفية حصوله، وأحاديًا إذا دعت الضرورة؟ يتولى الجواب تحديد الحدود الدنيا من شروط بقاء المجتمع واستمراره.
2/ ما الذي نسعى لتحقيقه، وإن لم نكن مدعومين بأي جهد تعددي؟ هذه الأهداف تلقي الضوء على الحدود الدنيا من أغراض الإستراتيجية الوطنية/القومية.
3/ ما الذي لا نسعى لتحقيقه، أو منعه، إلا إذا كنا مدعومين من حليف؟ هذا يرسم الحدود الخارجية لتطلعات البلد الإستراتيجية بوصفها جزءًا من نظام عالمي.
4/ ما الذي لا يجوز لنا أن ننخرط فيه، حتى لو طُلب منا ذلك بإلحاح من قبل مجموعة متعددة الأطراف أو تحالف معين؟ هذا يحدد الشرط الشارط لمشاركة أمريكا في النظام العالمي.
5/ قبل كل شيء، ما طبيعة القيم التي نسعى لترويجها؟ أيُّ التطبيقات تعتمد جزئيًا على الظروف؟). وتجدر الإشارة هنا إلى إلماحة هنري كيسنجر بعد هذه الأسئلة بقوله:
(الأسئلة نفسها تنطبق من حيث المبدأ على مجتمعات أخرى)، وعليه فأسئلة كيسنجر مهمة للخروج من متاهة الحيرة السياسية، ومن حق أي دولة ذات سيادة واستقلال إعادة هذه الأسئلة على نفسها كأسئلة مفتاحية لإعادة تموضعها في النظام العالمي الجديد، أما الدول الفاشلة أو القابلة للفشل فلا يضر (الشاة سلخها بعد ذبحها).
وعليه فإن ما حصل بين روسيا وأوكرانيا محسوم سلفًا في نظر أمريكا التي أعلنت خطط روسيا في دخول أوكرانيا قبل أن تقع، وأكدت ذلك بينما دول العالم تستبعد ذلك، مما يجعل المتابع يستعيد السؤال الرابع الذي طرحه هنري كيسنجر لنستشف الإجابة الأمريكية؟
وهنا ندرك كلفة ما تدفعه واشنطن في سبيل (التمحور حول آسيا) كمركز عملياتها السياسي والاقتصادي (الأهم) والباقي (مهم) ونقصد (أوروبا والشرق الأوسط) لكن أمريكا رغم كل ما جنته من مكاسب (ميلودراما القطب الواحد) إلا أنها بدأت تكتشف الكلفة العالية لهذا التمدد مقابل تضخم مشكلة (الراكب المجاني/الحر) لباقي الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن وخصوصًا الصين.
وتحت هذا العنوان (التمحور حول آسيا) تتأكد أهمية الصين كمنافس اقتصادي سريع النمو والتأثير في عموم آسيا والعالم إذ تسوّق الصين نفسها على أسس (العلاقات التجارية وازدهار الاستثمار المتبادل، لا سيما في مجالات تعزيز البنى التحتية الحكومية)، بينما أمريكا تعزز وجودها من خلال (الديمقراطية وحقوق الإنسان) وبين قطب (التجارة والاستثمار المتبادل) من جهة (والديمقراطية وحقوق الإنسان) من جهة أخرى، سنرى التجاذبات السياسية التي قد تدمج الدول أو تمزقها في العقدين القادمين. وللمشغولين بالشعارات (شرقًا مع الاستثمار والازدهار) أو (غربًا مع الديمقراطية وحقوق الإنسان) نقول: (إن التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى على شكل مأساة، والثانية على شكل مهزلة/مسخرة) لأن هناك من لم يتعلم من مآسي المرة الأولى أن هدف القوى العظمى شرقًا وغربًا مهما تلطفت بالشعارات ليس إلا (اصطناع كمبرادورية مافيوزية)، فهل لا بد أن ينساق التاريخ العربي للثانية فنرى (المهزلة/المسخرة)، وهذه ليست دعوة (للجمود والتصلب السياسي) بل دعوة لاجتراح العظمة في الحفاظ على شعرة لا تنقطع بين السيادة الوطنية والانحناء للعاصفة.
وأخيرًا... بعد الاتفاق النووي الإيراني المرتقب هل سنجد أمريكا وقد فاجأتنا بالاستثمار في التطرف الديني (الشيعي) القابل للضبط، كبديل عن استثمارها القديم مع التطرف الديني (السني) غير المنضبط!!، لنرى العالم العربي وهو يُقَلِّب بيت المتنبي على وجهين، وكلاهما صحيح بالنسبة لضرورات الواقع السياسي أمامه (ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى، عدوًا له ما من صداقته بدُّ)، ووجهه الآخر (ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى، صديقًا له ما من عداوته بدُّ).