لا تظنوا الإشكال كامن فيمن يصفهم المحمود ذرية سيد قطب (الحديثة) أمثال (عبدالوهاب المسيري ووائل حلاق وطه عبدالرحمن وأبو يعرب المرزوقي) بل الإشكال الأخطر في ذريتهم من الشباب الصغار (أغلبهم مبتعثين للدراسة في الخارج)، وقبل ذلك كله في تاريخ طويل من مقاربات (المجاملة والمداهنة الفكرية) لأجيال سبقت كل هذه الأسماء يختصرها من قال لي ذات يوم على شكل رسالة هامسة وليست للنشر باسمه: (... رفاعة الطهطاوي لم يكن داعية انعتاق من التخلف، بل كان يرى أن الأخذ من الغرب يكون مشروطًا بما يتفق مع تراثنا، ومثله كان محمد عبده والعقاد وشكيب أرسلان وغيرهم، ثم جاء البناء وسيد قطب فادعوا أننا متقدمون عن الغرب، فالغرب يشبه الحداد والنجار الذي يقدم الخدمة وليس متفوقاً... وحتى مالك بن نبي الذي اغتر به المثقفون يرى أن الثقافة الإسلامية ثقافة فكر بينما ثقافة الغرب ثقافة عمل وإنتاج، نجد ذلك في مقارنته بين حي بن يقظان لابن طفيل ورواية كروزو لدانيال ديفو... وحتى حسن حنفي اخترع فكرة الاستغراب مقابل الاستشراق، وهاجم ثقافة الغرب بعد أن بدأ بداية واعدة في ترجماته الأولى لسبينوزا وليسينج... وحتى الجابري يربطنا بالنصوص والتراث... عبدالله العروي ربما المفكر الأبرز من الذين أعلنوا بأنه لا انفكاك من التخلف إلا بالقطيعة مع ثقافة التخلف وكذلك أدونيس... أما معظم المثقفين فهم لم يتمكنوا من الحسم مع ثقافة التخلف، ويكفي أن نقرأ طوفان هجائيات المسيري لحضارة الغرب لندرك كم نحن خارج حضارة العصر بشكل كلي بائس....).

إذاً القطيعة مع ثقافة (التخلف) شرط حقيقي للتنوير، وما دام (الظلاميون) رفعوا مستوى مهارتهم في المدافعة والمرافعة عن (التخلف) بلغة حديثة، فليس أمام التنويري الحقيقي سوى المزيد من كشف الحقائق بطرق أشد وضوحًا ومكاشفة، بدلًا من مقاربات (المجاملة والمداهنة الفكرية)، فالبقاء في المنتصف ليس فضيلة دائمًا، فالمنتصف بين الطفولة والنضج ليس سوى مراهقة فكرية جامل بها التنويريون كثيرًا من المتلقين البلداء الذين لم يجرأوا أصلًا على استخدام عقولهم بقدر جرأتهم في استثمار كل ما أنتجه العقل الإنساني من اليابان حتى كندا ليقولوا لأنفسهم (نحن شعب الله المختار)، إنهم يقولوها وكل طائفة فيهم تلعن أختها، فهذا سلفي وذاك شيعي وثالث صوفي، فهل المخرج في تراث يغذي الذحل والإحن، أم المخرج في النظر لمستقبل فكري لأمم سفكت من دمها وعلى تراب أرضها حروبًا دموية لثلاثين ومائة عام وأكثر من ذلك في حربين عالميتين أخيرتين كانت في قلب أوروبا، فهل نقول بعد كل هذا، ليسوا أهلًا لنتعلم منهم وقد تجاوزوا كل هذا وما زالوا هم غالبية مجلس الأمن الدولي، أم لا بد أن نسير في طريق حروبهم الطويلة، فكأنما لا عبرة لنا بالأمم من حولنا، بل لا بد من الارتطام كما ارتطموا، ومن الدم أضعاف ما سفكوا، والمخيف أن يصيبك الشك أحيانًا في أننا حتى بعد الارتطام لن نتعلم، وهذه ليبيا وسورية ولبنان والعراق ما زالت تئن رغم مضي عقد وعقدان عليها في سبيل (الحرية والكرامة). ومما يقرف الروح أن ترتفع الهيمنة الأمريكية عن ظهور بعض المشرق العربي فتراهم يركضون مختبئين تحت العباءة الخمينية، أو العباءة العثمانية كهزيمة نفسية ما بعدها هزيمة. يا للألم فبعد قرن من طرد الاستعمار العثماني والبريطاني والفرنسي لم يبق في العروبة قلب نابض في المشرق العربي ليستعيد وهجها سوى جزيرة العرب وأرض الكنانة، بانتظارك على أحر من الجمر يا عواصم العروبة الأصيلة (دمشق، بغداد، صنعاء)، وسقى الله بيروت يوم كانت باريس العرب.