إذاً القطيعة مع ثقافة (التخلف) شرط حقيقي للتنوير، وما دام (الظلاميون) رفعوا مستوى مهارتهم في المدافعة والمرافعة عن (التخلف) بلغة حديثة، فليس أمام التنويري الحقيقي سوى المزيد من كشف الحقائق بطرق أشد وضوحًا ومكاشفة، بدلًا من مقاربات (المجاملة والمداهنة الفكرية)، فالبقاء في المنتصف ليس فضيلة دائمًا، فالمنتصف بين الطفولة والنضج ليس سوى مراهقة فكرية جامل بها التنويريون كثيرًا من المتلقين البلداء الذين لم يجرأوا أصلًا على استخدام عقولهم بقدر جرأتهم في استثمار كل ما أنتجه العقل الإنساني من اليابان حتى كندا ليقولوا لأنفسهم (نحن شعب الله المختار)، إنهم يقولوها وكل طائفة فيهم تلعن أختها، فهذا سلفي وذاك شيعي وثالث صوفي، فهل المخرج في تراث يغذي الذحل والإحن، أم المخرج في النظر لمستقبل فكري لأمم سفكت من دمها وعلى تراب أرضها حروبًا دموية لثلاثين ومائة عام وأكثر من ذلك في حربين عالميتين أخيرتين كانت في قلب أوروبا، فهل نقول بعد كل هذا، ليسوا أهلًا لنتعلم منهم وقد تجاوزوا كل هذا وما زالوا هم غالبية مجلس الأمن الدولي، أم لا بد أن نسير في طريق حروبهم الطويلة، فكأنما لا عبرة لنا بالأمم من حولنا، بل لا بد من الارتطام كما ارتطموا، ومن الدم أضعاف ما سفكوا، والمخيف أن يصيبك الشك أحيانًا في أننا حتى بعد الارتطام لن نتعلم، وهذه ليبيا وسورية ولبنان والعراق ما زالت تئن رغم مضي عقد وعقدان عليها في سبيل (الحرية والكرامة). ومما يقرف الروح أن ترتفع الهيمنة الأمريكية عن ظهور بعض المشرق العربي فتراهم يركضون مختبئين تحت العباءة الخمينية، أو العباءة العثمانية كهزيمة نفسية ما بعدها هزيمة. يا للألم فبعد قرن من طرد الاستعمار العثماني والبريطاني والفرنسي لم يبق في العروبة قلب نابض في المشرق العربي ليستعيد وهجها سوى جزيرة العرب وأرض الكنانة، بانتظارك على أحر من الجمر يا عواصم العروبة الأصيلة (دمشق، بغداد، صنعاء)، وسقى الله بيروت يوم كانت باريس العرب.