عبارة تكاد تكون متكررة لبعض منظري «المستقبليات» العرب على المستوى الإستراتيجي، وملخص هذه العبارة «ضرورة الاستدارة شرقا»، متكئين في ذلك على قراءة الأطروحات الإستراتيجية للقوى الكبرى الشرقية (الصين وروسيا)، بالإضافة إلى اليابان والهند، فهل فعلا بوصلة العالم أصبحت تنتظر «عطسة الصين»، ليشكو العالم من الزكام؟ مع ما في هذا السؤال من كوميديا سوداء، إذ كان السؤال يقصد به أمريكا سابقا على المستوى الاقتصادي، ليصبح في حق الصين واقعا «غير مجازي» على المستوى البيولوجي عبر «كوفيد».

في نظري أن الدول العربية، وبحكم الواقع العربي المهترئ في بعض جهاته، ليست في مناط التأثير الإستراتيجي، بل في مناط البحث عن «طريق السلامة/‏رأس مالك لا يضيع» في هذا التنازع الذي لن يكون حربيا ونوويا بين الدول العظمى، كما يتوقع «المهولون»، لكنه للأسف سيؤدي للنتائج نفسها تقريبا من خلال «الزلازل الاقتصادية»، وبعض الحروب والنزاعات الصغيرة «بالوكالة».

في هذا المقال لن أتناول إلا الجانب الأيديولوجي، الذي تحاول استثماره بعض دول الشرق الكبرى ضد الغرب، عبر الانقلاب على فكرة «حرب الإسلام ضد الإلحاد الشيوعي/‏الشرقي»، لنسمع مثلا الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عبر خطابه السنوي كأنما يستخدم بروباغندا رونالد ريغان نفسها في التعبئة الأيديولوجية بشكل معكوس ضد الغرب، وذلك عندما يتطرق «بوتين» إلى حرية التعبير والتعصب الديني، فيقول: «مثال ذلك إهانات النبي محمد.. هل هذه حرية تعبير؟.. لا أعتقد ذلك.. إنها انتهاك لحرية الدين، وانتهاك للمشاعر المقدسة للأشخاص الذين يعتنقون الإسلام..».. كدت أقول: «اللهم قوي إيمانه»!؟!!.


يقول ألكسندر دوغين (منظر إستراتيجي يميني قومي روسي) بما معناه:«إن روسيا في أحداث 11 سبتمبر استنكرت الاعتداء الحاصل على أمريكا من قِبل الإرهابيين المسلمين، ولكنها تفاجأت بأن أمريكا لم تصنف الانفصاليين المسلمين في الشيشان، الذين يقتلون ويفجرون، بأنهم إرهابيون. لقد كان تعريف الإرهاب خاضعا لمصالح سياسية عليا، تراعى فيها جيوبوليتيك/‏الجغرافيا السياسية». وهنا نرى أن روسيا قد تعلمت الدرس بامتياز، وها هي تعيد على أسماع «العالم الإسلامي» لغة «ريغان» مع بدايات تحويل أبناء المسلمين إلى مرتزقة في حروب الوكالة.

هل أخطأ اليسار العربي حين تحالفوا مع «ولاية الفقيه»، ليكونوا عرابي حصان طروادة «الروسي/‏الصيني» في العالم الإسلامي، على اعتبار «الإسلام السياسي السني» له تاريخ متجذر في التعاون مع «الغرب/‏البريطاني قديما والأمريكي حاليا»؟.

في مقال سابق، أشرت لما يسمى «لاهوت التحرير»، الذي يظهر على شكل أدبيات دينية (مسيحية أو إسلامية) مع أرضية ماركسية، وأمثلته في أمريكا الجنوبية كثيرة. وفي العالم الإسلامي، تكاد تكون زعيمة لاهوت التحرير «جمهورية إيران»، لأسباب تاريخية (تحالف اليسار مع الخميني في خلع الشاه)، ولهذا نجد السيد حسن في لبنان يمزج في خطابه التعبوي بين «لغة اليسار الكلاسيكية في النضال والفدائية والمقاومة» وبين لغته الدينية (الوعد بالنصر والشهادة) مع تصوير المسألة من خلال دراما، ظاهرها ديني وباطنها طبقي، من خلال «الحسين/‏المظلوم» والظالمين، وهذا يعيدنا إلى «لاهوت التحرير» الديني.

وفي المقابل، نجد مثلا الرئيس الإيراني السابق «حسن روحاني» يهنئ اليهود بمناسبة عيد رأس السنة العبرية، وكذلك يهنئ البابا، ويحضر مناسبة الكريسماس لدى عائلة مسيحية، ويشاركها احتفالها بجوار شجرة عيد الميلاد.. إلخ، في مقاربات إيرانية تؤكد أن ما تخفيه في مستوى براغماتيتها أكثر مما تظهر.

في كتاب/‏مجلد، يعتبر مرجعا مهما على الرغم من تقادمه، بعنوان «تضخيم الدولة العربية/‏السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط» لنزيه الأيوبي (971 صفحة)، أشار المؤلف -كما فهمت من كلامه- أن صدام حسين تفاعل مع الثورة الإيرانية وفق مزاج إقليمي ودولي يغريه بالحرب على إيران، متجاهلا حقيقة الرغبة -لدى الفاعلين الدوليين- في إضعاف الطرفين (العراق وإيران)، بينما كان يكفيه -وهنا أنقل رأي الأيوبي كما فهمته- أن يتجه صدام حسين إلى إجراءين بسيطين، لحماية العراق من الاختراق الأيديولوجي الإيراني: ترسيخ العلمانية، وتعميق الديمقراطية.

هذان الشرطان بإمكانه العمل عليهما وفق إمكانات العراق، ولو في الحد الأدنى، ليحمي الداخل العراقي من أي تأثيرات خارجية، بل على العكس سيصنع نموذجا عكسيا يؤثر على الداخل الإيراني، الذي يعاني أزمات وضعف الثورة، فكأنما الحرب جاءت منقذة وموحدة للداخل الإيراني، حيث استثمرها الخميني في الاغتيالات «الثورية»!؟!!.

الاستقطاب لم يطل برأسه على منطقة الشرق الأوسط، بل «استوطن المنطقة منذ سايكس بيكو، وصولا إلى الحرب الباردة ضد الشيوعية السوفيتية حتى الحرب الباردة ضد العولمة الأمريكية»، ولهذا تقلقنا عبارة ماركس الشهيرة: إن التاريخ يعيد نفسه مرتين: مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل «مهزلة/‏مسخرة»، فكيف يستجيب البعض من النخبة الشرق أوسطية لهذه الأوضاع من أجل إعادة ما سيجعلهم في هذه المرة «مهزلة/‏مسخرة»، ودماء العنف الطائفي بين المسلمين أنفسهم (السلفية والصوفية والشيعة) في «باكستان مثلا» لم تتوقف.

وأخيرا.. من حقنا الدفاع عن «كياننا الثقافي»، اجتماعيا ودينيا وسياسيا، ضد «العولمة الشمولية/‏الأمريكية»، لمفاهيم أخلاقية قد لا تناسبنا، ولكن ليس بالاصطفاف «الأعمى» مع «الأصوليات الشرقية/‏هندوسية - زرادشتية - أرثوذكسية»، التي تحاول الدول الشرقية الكبرى إقحامها في السياسة، لعلها تجد بين مليار ونصف المليار مسلم من يركب الموجة من جديد كـ«عملاء ومرتزقة» لحرب باردة بين قوى عظمى جديدة، وصولا لتعدد الأقطاب.

العالم في الشرق والغرب اتفق على «الديمقراطية وحقوق الإنسان»، واختلف على تفسيرها، ولنا أن نفسر الديمقراطية وفق ثقافتنا (الملكية العربية السعودية)، ونأمل في المزيد منذ إنشاء البرلمان/‏مجلس الشورى، ونظام المناطق والنظام الأساسي للحكم، مرورا بإنشاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، ووصولا لهيئة حقوق الإنسان، التي عالجت فيها القيادة السياسية، بقوة وحزم، ملفات حقوقية مؤجلة منذ عقود مع تحقيق ثورة مفاهيمية تجاه «الزمن والإنسان» للمواطن السعودي، من زمن خزعبلات البحث الميتافيزيقي عن «جودة الموت!» إلى زمن التخطيط والعمل الفيزيقي من أجل «جودة الحياة» عبر «رؤية 2030».