لا يكون القائد قائداً ما لم ينجح في تحقيق تغيير ملموس في حياة أتباعه، ولهذا تقترن القيادة بالتغيير دوماً، وتظهر مزاياها بقدر ما تحققه من تغيير منشود.
نحن نعيش حقبة تاريخية غير مسبوقة، العالم كله منخرط في أطوار التغيير كشرنقات تلحظ تطورها، وإن كانت ساكنة. كل الصفات الاعتبارية من حكومات وهيئات ومجتمعات داخلة في تغيير ما، تتحدى فيه القناعات القديمة، وتبحث عن جديد أفضل يضمن لها البقاء والاستدامة.
ودولتنا العظيمة على رأس القائمة برؤية طموحة تتحدى فيها جذوراً بائدة من إستراتيجيات عقيمة وأنظمة عمل بدائية وتواكل يفضي إلى ما لا تحمد عقباه، نحو عالم متمكن، وأنظمة حديثة فعالة، ومهنية ومسؤولية تعمّر بها البلاد ويحيا بها العباد.
يعد النطام التعليمي الأضخم بين أجهزة الدولة عدداً وميزانية، والأهم من جهة تطبيق الرؤية كأساس محوري للنهضة المنشودة، نراه مستهدفاً بشكل خاص لتطويره ومضاعفة نواتجه وتجويدها، لخلق موارد بشرية مؤثرة، ودعم الإنتاج المحلي بأنواعه سواء كان اقتصادياً أو علمياً أو ثقافياً.
عكفت وزارة التعليم منذ سنوات على تطوير أنظمتها وآلياتها ومناهجها وبنيتها التحتية ومواردها البشرية لتحقيق المأمول، وتصدر بين الفينة والأخرى قرارات وتعليمات لإحداث التغيير، كان آخرها قرارات المناهج والخطط الدراسية الجديدة، في مشهد ثوري لا يقاربه تغيير منذ 60 عاما.
أعتقد -على الصعيد الشخصي على الأقل- أن تلك القرارات سيصحبها تغيير كبير في قيادات الأجهزة التعليمية على اختلاف مستوياتها، كما أن حجم التغيير المطلوب يستحق تمكين قيادات نابغة تضمن نجاح العمل وتعزز مكاسبه.
وبالرغم من سهولة القول، إلا أن الفعل أشبه بالمستحيل، كيف يمكن إخراج إبرة من كومة قش، وخاصة إن كانت تلك الكومة لم تحرك منذ عقود إلا وفق عوامل التغيير الطبيعية والعشوائية من تقادم وتقاعد وبلوغ الأجل.
إن التغيير المطلوب عظيم الحاجة إلى قيادات فذة، بسبب حجمه، ونوعه، وأهميته، وجدوله الزمني الضيق، فهو شامل لجميع المناهج والمراحل وخطط التدريس، وتتعدد أنواعه بين التقليدي والافتراضي والتحليلي والتمثيلي، وتبرز أهميته كمحور لمعظم المبادرات الوطنية، وكل ذلك مطلوب تحقيقه وقطف نتائجه في 8 أعوام فقط.
وفي دراسة حديثة تم إجراء مقابلات شخصية مع أكثر من 3000 موظف لتحديد الطرق القيادية الناجحة لتطوير بيئات العمل المدمجة (الهجينة)، والتي أصبحت سمة العصر ودخلت جميع المجالات، وعلى رأسها التعليم والتدريب بأنواعها، وأسفرت الدراسة عن أهم أربعة طرق ومناهج كانت هي الأنجح في تحقيق الهدف:
أولا، «تمكين الموظفين»، حيث أظهرت الدراسة أن تطبيق ما يسمى بالإدارة العضوية، والهيكل التنظيمي المسطح، يساهم في تمكين الموظفين وإشراكهم في اتخاذ القرار، يزيد من قدرة الموظفين على الابتكار والاستقلالية، بعكس الإدارة العلمية التي تهيمن على موظفيها في تراتبية صارمة تعاملهم كمرؤوسين ليس لهم من الأمر شيء.
ثانيا، «تطبيق بيئة العمل المرنة»، والتي تتيح للموظفين إنجاز أعمالهم حسب أوقاتهم واحتياجاتهم، وتحقق توازناً صحياً بين متطلبات العمل والحياة، وتجعل الموظفين أكثر سعادة ورضا عن أنفسهم وعن مؤسساتهم، والذي سيؤدي حتما إلى زيادة وتجويد مخرجاتهم.
ثالثا، «إدارة المعرفة بفعالية»، لا يخفى علينا أن عصرنا هذا هو عصر المعلومات بجدارة، فما ينتج فيه في يوم واحد يعادل حصيلة أعوام وعقود فيما مضى، بسبب التقنية الحديثة والحوسبة والذكاء الاصطناعي، إذ يشكل قرار استخدام تلك الأدوات عاملاً حاسماً في نجاح أي منظمة.
وأخيراً، «التطوير المهني» المستمر والمواكب للمستجدات، والذي يحقق أهدافه التدريبية بفعالية ويوفر الفرص لجميع الموظفين بمرونة وإحكام متناغم، ويكون شاملاً للمعارف والمهارات والتوجهات اللازمة لتأدية العمل، وتحقيق الأهداف بكفاءة ونجاح.
وكما أدرك القارئ العزيز بلا شك أن تطبيق ما سبق كله أو جزء منه ليس بالأمر الهين، حتى لو اتفق الجميع على أهميته وإمكانية تطبيقه، فإن ما ندركه نظرياً وأكاديمياً لا يعني بالضرورة سهولة جعله واقعاً ملموسا، فعندما تواجه القناعات تحديات الواقع وقوى مقاومة التغيير فإنها عادة ما تهتز وتضعف، وربما ينهار ما ظنناه جبلاً لا يتزحزح.
وهنا بالذات تبرز أهمية اختيار القادة قبل توظيف القيادة، ليس لمعارفهم ومهاراتهم وحسب، بل لخصالهم وأخلاقهم وقيمهم التي تصل للنفوس وتخاطب الأرواح والقلوب قبل أن تنطق الشفاه عما في العقول، وسيكون مقالي القادم بحول الله حول هذا الموضوع بالذات لأهميته وغزارته.