دائما ما يكون الكاتب المتضرر الأكبر في دوامة النشر والتوزيع الذي قد يفتقد المقدرة والأدوات على متابعة ما يطبعه غالبا على حسابه الشخصي، ويتأكد من توزيعه بعد النشر بشكل لائق للجهد والتكلفة واسم دار النشر التي علق عليها الآمال لتسويق نتاجه الخاص. وقد يضطره سوء طباعة أو نشر أو توزيع يمر بها في أحد تجاربه إلى التنقل مرارا بين كل عمل وآخر -وربما للعمل نفسه- بين عدة دور نشر، أو فقدان الحماسة لأي إنتاج آخر، وبالتالي التهميش ثم التلاشي إن لم يكن يجيد الاصطفاف للمنازعة حول حقوقه، أو حشد الداعمين والمسوقين لكتابه من ذوي النفوذ الثقافي والأدبي والإعلامي، إن كانت دائرة معارفه وعلاقاته ضيقة ومحدودة، أو مرتهنة لاعتبارات لا يجيد التماهي معها.
هذا الضعف بين علاقة الناشر والكاتب يمتد ليصيب العملية الثقافية والأدبية بالمجمل في المشهد المحلي، خاصة إن كنا نميل للتحدث عن الاقتصاد الثقافي، وبالتالي نشاهد ظهور نمطية في ذيوع الأسماء الثقافية، وانتشارا لما يصنفه البعض بالأدب الرديء، وقلة المنافسة في الجوائز العالمية والمحلية، ومحدودية انتشار الأدب السعودي في العالم كافة.
في السعودية -كأغلب الدول العربية- صناعة النشر تسير عرجاء، لافتقادها لمقومين مهمين يخدمان هذه الصناعة وهما: الوكيل الأدبي والمحرر الأدبي، وإن كان الأخير يوجد بشكل غير احترافي في بعض دور النشر وتنحصر مهمته بالمجمل في تصحيح الأخطاء النحوية ورصف الكتاب وإخراجه. ولكن الوكيل الأدبي يكاد يكون غائبا تماما عن المشهد الثقافي بعكس الحال في الدول الأخرى بالذات الأوربية والأمريكتين التي تعمل بهذا النمط الثقافي منذ زمن بعيد.
قد يتساءل الكثير، خاصة بعد إعلان وزارة الثقافة مؤخرا عن تقديم عدة خدمات عبر منصة موحدة لمنح تراخيص لممارسات ثقافية في عدة مجالات منها ما هو في مجال الأدب والنشر كرخصتي الوكالة الأدبية والوكيل الأدبي، يتساءل عن جدوى الوكيل الأدبي للكاتب بشكل خاص وللعمل الثقافي بشكل عام. ولتبسيط الصورة لنتفق في البدء أن النشر عبارة عن مثلث له أضلع ثلاثة: المؤلف، والناشر، والوكيل الأدبي فردا كان أو مؤسسة؛ المؤلف مبدع لديه مقدرة لصياغة فكرة أدبية أو فنية ينتج هذه الفكرة كعمل خام. والناشر جهة خاصة تأخذ العمل الخام من المبدع ووفق اتفاقات تضمن حقه في الطباعة والتوزيع والنشر يتم التعاقد بينهما، وحسبما هو شائع فإن العلاقة بين المبدع والناشر مباشرة وذاتية قد يتخللها افتراضات كثيرة من الاتفاق أو الاختلاف الآني أو اللاحق حول التفاصيل المتفق عليها. أما الوكيل الأدبي وهو الجزء المفقود من الصنعة هو الوسيط الذي ينبغي أن يكون بين المبدع والناشر؛ فهو من يبحث عن الأقلام والأفكار المبدعة، وهو من قد يوجه المبدع لاحتياجات السوق الثقافي والأدبي المحلي والعالمي والموجات السائدة فيه، وهو من يبحث عن الناشر المناسب ويقدم له العمل الخام ويبرم الاتفاقات والاشتراطات ويتابع تقارير التوزيع والمبيعات، وهو من يحرص على أن يكون من تحت وكالته الأدبية في قائمة الكتب الأكثر مبيعا وانتشارا، أو المستحقة للترجمة، أو الترشح للجوائز والمنافسات، وهو من يعمل على تحويل العمل المكتوب على سبيل المثال لصيغ أخرى رقمية أو مسموعة أو مرئية من خلال اتفاقات أخرى مع مؤسسات العمل المرئي أو المسموع، وهو من يكتشف المواهب الجديدة ويستحثها على الإنتاج ومن يحرص على استبقاء الأسماء العريقة والقديمة والمتمكنة التي تستحق الانتشار والنشر بالمتابعة وتقديم التسهيلات والخدمات اللوجستية للنشر التي ينفر منها من لا يجيدها.
لنا أن نتخيل أن كل هذه الأعمال التي يفترض أن تكون من عمل الوكيل الأدبي فردا أو مؤسسة كان يقوم بها المبدع، وتتولى بعضها دور النشر. فتتداخل المصالح وتتشتت المهام وينصرف كل واحد منهما عن حقيقة العمل الذي ينبغي أن يتقنه ويجيده ويحترف فيه. ولأنه مفقود لدينا فليس من المستغرب أن تكون صناعة النشر لدينا ضعيفة، ولا التمثيل الأدبي السعودي قليل، ولا العلاقة القائمة بين الناشر والمؤلف يتداخلها الشد والجذب والاتهامات والإهمال والمصالح.
إن مأسسة العمل الثقافي ووضع المحددات التي ينبغي أن يقوم عليها، وتصنيف المهام التي ينجزها كل ضلع من هذه الأضلاع الثلاثة (الناشر - المبدع - الوكيل الأدبي)، وصياغة معايير وأسس وضمانات للعمل ستعود على العمل الثقافي والأدبي المحلي بكثير من الفوائد، منها على سبيل الذكر لا الحصر: ضمان الحقوق الخاصة للمؤلف وللناشر، وتجويد عملية النشر داخليا وخارجيا، وإثراء الأعمال السينمائية والدرامية بالمنتج المحلي، وتصدير الثقافة والأدب السعودي للخارج ترجمة ونشرا ورقيا أو مرئيا، فضلا عن اكتشاف مواهب وإبداعات جديدة تزخر بها بيئتنا وتفريغها للعمل الثقافي الجاد غير الخاضع للاجتهادات الشخصية ولا التسويف أو التأجيل أو التفاضل غير المنصف. وكل هذا يصب في مصلحة الحراك الأدبي والثقافي ويحافظ على جودته.
الأديب والروائي البرازيلي الشهير باولو كويلو الذي تنتشر أعماله بما يزيد عن خمسين لغة في أكثر من 150 دولة حول العالم غرد عبر حسابه الرسمي في تويتر عام 2017 بصورة للسيدة مونيكا أنتونيز قائلا: «قبل 28 عاما بدأنا العمل معا. شكرا مونيكا؛ وكيلة أعمالي وصديقتي!». هذا يعني 32 عاما حتى الآن من التعاون الناجح، والثقة الحصرية التي لو لم تكن ناجحة لما استمرت كل هذه السنوات، بينما يقضي البعض بيننا عشر سنين عجاف محاولا نشر وتوزيع وتأكيد أحقية عمل إبداعي واحد بكل ما أوتي من إيمان أنه يستحق.. يا لها من مفارقة مؤلمة!.