شكلت الجاليات التي قطنت مدينة جدة منذ سنوات طويلة ما يشبه التجمعات السكنية التي اكتست في الغالب ثقافة تلك الجاليات من حيث مطاعمها وأسواقها وبضائعها، وكذلك عادات وتقاليد ساكنيها.

وبدا أن هناك إجماعاً شديداً من مختلف الجاليات على أن يقطن كل من أفرادها قريبا من أفرادها الآخرين، مما يسهل التواصل بينها، ويخفف عنها آثار الابتعاد عن الوطن الأم. ولا يعرف تاريخ دقيق لموجات وتيارات الهجرة إلى جدة، والتي يرجح أنها تعود إلى القرن الـ16، حيث جاءها مهاجرون من فارس واليمن والهند، حسب بعض الرحالة.. وفي أوائل 1974 تدفقت العمالة الوافدة من الأقطار العربية وبعض الدول الآسيوية والإفريقية، وخلال هذه المرحلة وحتى متنصف الثمانينات توسعت المدينة ونمت، وتبلورت في صورة مدينة حديثة، أكثر انفتاحا، ونشاطا، وأصبحت التركيبة السكانية عبارة عن خليط من أبناء المدينة الأصلية، إضافة إلى من هاجر إليها من مكة والمدينة ومن القرى المحيطة بها، وكذلك من مناطق المملكة المختلفة.

الفرز الطبقي


هذا الخليط السكاني دفع كثيرا إلى الاحتماء بثقافات ثانوية، وبفضاءات خاصة بهم، فنشأت أحياء خاصة بالوافدين، مثل بومباي الصغيرة، أو حيدر أباد أو جاكرتا، أو حتى إفريقيا، يتميز كل منها بأسلوب حياة، وثقافة في المأكل والملبس والمسكن، ولم تتمكن المدينة من صهر كل هؤلاء في بوتقة واحدة، مثلما فعلت مع الأوائل الذين تحول تنوعهم الإثني إلى مصدر غنى، حينما اندمجوا سويّا. المتأخرون لم يجدوا ما يساعدهم على التكيّف والتأقلم مع حياة المدينة التي تحولت إلى مدينة مليونية، مكونة من جزر شبه منعزلة، مما سمح -حسب باحثين- بحدوث فرز طبقي، وعزل بين الأحياء والمناطق، أصبحت هناك أحياء راقية، وأخرى متوسطة أو شعبية أو عشوائية، على مدى العقود الـ4 الماضية.

كثافة سكانية

«الوطن» تجولت في بعض أشهر أحياء جدة ذات الكثافة السكانية لهذه الجاليات جغرافيا، ورصدت تمركز ونشاط بعض الجاليات التي نقلت لنا نموذجا مصغرا لبلدانهم. وبدا واضحا التأثر الاقتصادي في وجود غالبيتهم العظمى فيما عرف بالأحياء الشعبية، بكل ما يميزها من شوارع ضيقة بالكاد تسمح لسيارة واحدة بالعبور، وأكوام من نفايات على جنبات الطرق، ومستنقعات مياه الصرف الصحي، وعدادات وكيابل كهرباء مكشوفة تشكل خطرا على سكان الحي، ولم يخل الأمر في بعض الأزقة داخل هذه الأحياء، من ممارسات صحية خاطئة، وأسواق عشوائية تروّج لأطعمة ومنتجات، بعضها فاسد والآخر مجهول المصدر.

حي البوادي

يقع حي البوادي الشعبي شمال دوار الهندسة، بين شارع المكرونة وطريق الملك فهد «الستين»، وتبلغ مساحة حي الوادي الشعبي 2.6 مليون متر مربع. هو أحد الأحياء العشوائية التي نشأت في جدة، عقب الطفرة الاقتصادية منتصف السبعينات. وتجد على ناصية الشارع المطاعم المتعددة التي تقدم المأكولات الباكستانية، إلى جوارها أفران التميس الأفغاني ومحلات بيع الملابس الباكستانية. حين تشكل الحي من أبناء القرى والضواحي القريبة من جدة، لم يكن الحي بهذا العدد الكبير من الجالية الباكستانية، لكن مغادرة غالب أهالي الحي منازلهم، وانتقالهم إلى أحياء أكثر تطورا، وعرض منازلهم للإيجار بأسعار رخيصة، طبقا للمواطن صالح الشيخي 68 عاما «أحد سكان الحي»، صار غالب سكان الحي الآن من الجالية الباكستانية والأفغانية، الذين لا يتردد الشيخي في وصفهم بأنهم أناس طيبون في جيرتهم، كما أن أبنائي تعلموا بعض الكلمات خلال مخالطتهم لهم. فيما يؤكد الباكستاني زهير نور، الذي يسكن الحي منذ قرابة 5 سنوات، أنه قدم للعمل بجدة بمهنة فني تركيب جبس في مؤسسة للمقاولات العامة.

ويوضح قائلا: اخترت حي البوادي الشعبي للسكنى، لرخص الإيجارات فيه، إذ تراوح بين 800 ريال إلى 1200 ريال شهريا، كما أن وجود بعض الأقارب والأصدقاء فيه، كان عاملا مشجعا أيضا.

حي بني مالك

من أقدم أحياء جدة التي نشأت شمال جدة القديمة، ويقع الآن وسط المدينة، يحده من الشمال شارع فلسطين، ومن الجنوب شارع بني مالك، ويعد من أكبر أحياء المدينة، إذ تقدر مساحته بـ4,6 ملايين متر مربع. يضم الحي -طبقا للمواطن علي الشريف «أحد سكان الحي»- كثيرا من المواطنين والمقيمين من مختلف الجنسيات العربية والأجنبية، ولكن غالبيتهم مصريون، تشاهدهم في الصباح الباكر يغادرون منازلهم ذاهبين إلى أعمالهم الحرفية، كالحدادة والبناء والنجارة، ومنهم من يعمل في الكهرباء والسباكة وكثير من المهن. الشقيقان المصريان «شعبان ومحمود» يعملان في السباكة، ويسكنان حي بني مالك منذ سنوات، قال شعبان: أنا قدمت إلى جدة قبل 12 سنة للعمل في مهنة السباكة، عندما وصلت اتجهت إلى بني مالك للسكن عند أحد أقاربي، ثم لحقني شقيقي محمود بعد 4 سنوات للعمل معي.

وأوضح محمود، هناك عدة أمور دفعتنا للسكن في بني مالك، منها انخفاض الإيجار، إذ نسكن 7 أشخاص في بيت شعبي صغير، مكون من 4 غرف نوم وصالة، إيجاره 1000 ريال تقريبا شهريا، يقسم المبلغ علينا، كما يجذبنا للحي وجود الأقارب والأصدقاء، فغالب من يسكن بني مالك مصريون.

حارة البورما

بين كيلو 13 وكيلو 14 شرق خط مكة / جدة السريع باتجاه الجنوب، تقع منطقة أطلق عليها «حارة البورما» لوجودالجالية البرماوية بكثافة فيها. يقول الشاب عبدالقادر أحمد 33 سنة من الجالية البرماوية، أنا حديث عهد بالحارة، سكنتها منذ قرابة 4 سنوات، كنت أسكن حي قوز النكاسة في مكة، انتقلت للعمل في جدة، وقررت أن أسكن هذه الحارة لشبهها الكبير بحي النكاسة في مكة، بسوقها الشعبي الذي يبيع أطعمتنا ومنتجاتنا، ولتقارب العادات والتقاليد مع سكان الحي، وأيضا وجود بعض الأقارب لي والأصدقاء. الشاب خالد الزهراني يسكن مجاورا لحارة البورما، ويوضح: البرماويون يشكلون 90 % من سكان الحارة وعددهم في تزايد كبير، خاصة بعد مشروع تطوير حي النكاسة بمكة، إذ انتقل عدد ممن كانت منازلهم هناك إلى أقاربهم هنا في جدة.

غليل

من أشهر أحياء جدة الشعبية وأكبرها الواقعة جنوب المدينة. وتبلغ مساحته 1.9 مليون متر مربع، تعيش كثافة سكانية تقدر بحوالي 60 ألف نسمة تقريبا، معظمهم من الجالية الإفريقية، وينعكس ذلك جليا على ملامح الحي، حيث انتشار المطاعم الإفريقية التي تقدم لحم السيرية والشيّة، ومحلات بيع العطورات السودانية، وبسطات بيع الحناء السوداني، ومتاجر بيع الملابس الإفريقية. محمد علي 55 سنة -سوداني الجنسية- يسكن الحي منذ قرابة 20 سنة، ويشرح موضحا: عندما وصلت إلى جدة سكنت عند صديق لي هنا، وبدأت العمل في إحدى المؤسسات التجارية، كنت أعمل محاسبا، ثم بدأت تكوين نفسي، استأجرت منزلا، واستضفت أسرتي من السودان، أكثر ما يجذبني في الحي الآن هو عدم شعوري بالغربة، لوجود أقاربي وأصدقائي السودانيين، كما تتوافر في غليل المطاعم السودانية، والمحلات التي تبيع المنتجات السودانية. وتابع: أبنائي يفضلون البقاء في الحي، لحبهم لكرة القدم، ووجود ملاعب كثيرة تتيح لهم ممارسة هواياتهم مع أصدقائهم.

الكندرة

من أقدم وأشهر الأحياء بجدة، ويميزه أنه من أوائل الأحياء التي نشأت خارج سور جدة القديم. يروي محمد الجفري 72 عاما -أحد سكان الحي- أن الكندرة كان في السابق من أرقى أحياء جدة، يضم الفلل والفنادق، يمتاز بقربة من المطار القديم، كما تصل مساحته إلى 1.4 مليون متر مربع، ويشتهر بالمطابخ الحضرمية التي تقدم الأكلات الشعبية كاللحم المندي والمظبي، ومحلات بيع عسل دوعن الحضرمي. فيما يقول سالم مهتدي، 42 عاما يمني الجنسية، ويعمل في أحد المحلات التجارية في الكندرة: أسكن الحي منذ ولادتي، أبي وجدّي هم من اختاروا الحي. الحي يسكنه خليط من السعوديين والعرب وغير العرب، لكن اليمنيين يمثلون النسبة الأكبر، وسبب ذلك هو قرب الحي من منطقة البلد، التي تعد مركز التجارة في جدة، إذ إن معظم أهالي الحي يعملون في التجارة.

العزيزية

حي العزيزية الواقع شمال شارع التحلية، بين طريق الأمير متعب وطريق المدينة المنورة، وتصل مساحته إلى قرابة 6.1 ملايين متر مربع، تكثر فيه الجالية الهندية التي تعمل في كثير من المهن الفنية، ويميز الحي أنه محاط بالمطاعم الهندية.

المجمعات السكنية

المجمعات السكنية المعروفة بـ«الكامباوند» عرفت في مدينة جدة قديما، واشتهرت بسكن الغربيين فيها، الذين يطلق عليهم العامة «الخواجات»، ويوجد في مدينة جدة أكثر من 30 مجمعا سكنيا. تتميز بأنها مكونة من فلل وشقق تحاط بها الأسوار، تؤسسها بعض الشركات لموظفيها للحفاظ على الخصوصية الاجتماعية للأجانب القادمين من المجتمعات الغربية، أو تبنيها بعض الشركات العقارية وتؤجرها لموظفي الشركات، وغالبا تكون مجهزة بمدارس خاصة وملاعب وحمامات السباحة وبعض المطاعم، وغيرها من

وسائل الترفيه

كما تمتاز بوجود حراسات أمنية، وغالبية سكان هذه المجمعات من أصحاب الدخل المرتفع من الأجانب، وغالبية من يسكنها هم الأوروبيون والأمريكان، وتراوح أسعار إيجار الفلل السكنية داخل هذه المجمعات بين 80 ألفا إلى 150 ألف ريال سنويا. أما الجالية الفلبينية، فغالبيتهم يسكنون في أماكن متفرقة، شمال جدة، وعادة في شقق سكنية، إلى جوار المستشفيات والمراكز الصحية، إذ إن غالبهم يعمل فيها.

الأحياء من حيث المساحة

البوادي الشعبي: 2.6 مليون متر مربع

الكندرة: 1.4 مليون متر مربع

بني مالك: 4.6 ملايين متر مربع

البورما: 1.4 مليون متر مربع

غليل: 1.9 مليون متر مربع

العزيزية: 6.1 ملايين متر مربع