لو تتبعنا القواعد الأصولية القديمة التي تحدد من مجال النص؛ كالتخصيص بسبب النزول أو الدوران مع العلة أو حمله على الحقيقة العرفية لوجدنا أنها تتقارب مع الزمنية، ولكنها لم تذكر بهذا المصطلح
منذ مطلع القرن العشرين، والأصوات تتعالى حول ضرورة تجديد الخطاب الديني أو تجديد الفقه، وقد كُتبت حول هذا الموضوع كتابات وألفت مؤلفات ولم تحقق الغرض المنشود من هذه الدعوات، فما زال الفقه القديم هو المسيطر، وهذا يعود إلى عدم تحديد نواة للتجديد، فكل الكتابات تحوم حول الإمكانية والمشروعية والجواز؛ أي حول الإقدام على الخطوة لا الخطوة نفسها، فكأن غرضها حماية النص أكثر من استحداث طرق جديدة للقراءة، ولذا تركز على المجالات والشروط والمجتهد وصفاته وهذه تسهم في التحديد لا التجديد، ولا نجد تناولا للعناصر المكونة لتجديد الخطاب كزمنية النص، والتفسير المضموني له أي تفسيره وفق ما يحقق مضامينه أكثر من التفسير القديم، والترجمة المفاهيمية للمفردات القديمة.
فالمعنى اللغوي لا يرشد بالضرورة إلى مفهومه المراد للشارع، فهذه هي الأسس وسأركز هنا على أهمها وأبرزها وهي زمنية النص، فهي ما يخشى المجددون من التصريح بها وإن كانوا يقولونها ضمنا، وتعني حصر النص في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ولا يشمل ذلك كل نص بطبيعة الحال، وهذه الخشية أتت من متلازمة اتهام النص بالقصور أو عدم الصلاحية أو أنه أصغر من واقعنا، مع أن حصر بعض النصوص قد يكون دليلا على دقتها، وأن تعميمها زمنا رغم طبيعتها المحدودة باعث على اتهامها بالقصور، لأنها لن تؤدي نتائجها فلا معنى لإحداث تلازم بين أبدية النص وبين الإيمان به أو إحداث تلازم بين أبديته وبين تعظيمه واعتباره، إذ لو كان الأمر كذلك لأصبحت الآيات المنسوخة حكما دون التلاوة، أي مازالت في القرآن في مرتبة أقل من بقية الآيات لأن زمنها محدود وقد انتهى العمل بها مع أن أي آية منها هي أعظم من أي رواية أو فهم بشري أو إجماع.
إن هناك نوعين لزمنية النص:
الأول ما يمكن أن نسميه بالنصوص الرسالية أو الدعوية، وهي تلك النصوص التي وجدت لدعم الرسالة في بدايتها والتي لا يمكن أن تتكرر.
وثانيها هي النصوص ذات النطاق المحدود في تحقيق مقصد شرعي أو إنساني، أي أن النص لا يمكن أن يحقق أيا منهما على طول الزمان.
فنجد النص إذا طبق في غير زمنه فإنه يظهر بطابع شكلي وبلا مضمون ومفرغا من روحه، وهذه تعرف من خلال متابعتها على أرض الواقع، فإذا لم تظهر أي نتيجة قيمية له فهو محدود، ويزداد الخلل حينما يؤثر على نص آخر قد طبق بمضامينه.
فأبدية النص أو زمنيته ليستا مما يؤخذ في الاعتبار حين تشريع النص، وأن ما ذكر من ربطهما بالمضمون وبالأسس العليا للتشريع، فإذا كانت الأبدية هي ما توصل لمضمونه ولمراد الشارع فهي المقبولة، وإذا كانت الزمنية هي ما توصل لهما فهي المقبولة.
ولا أعلم نصا يوجب على المسلمين بعد مئات أو آلاف الأعوام أن يلتزموا بنص معين بنفس الطريقة المعهودة اليوم المشابهة للالتزام بالقرارات الإدارية.
ولو تتبعنا القواعد الأصولية القديمة التي تحدد من مجال النص؛ كالتخصيص بسبب النزول أو الدوران مع العلة أو حمله على الحقيقة العرفية لوجدنا أنها تتقارب مع الزمنية، ولكنها لم تذكر بهذا المصطلح، لأن زمنها ما زال باقيا فتخلفها بسبب تخلف سببها لا زمنها، وتفاوت العمل بالنص عائد إلى اختلاف ظرفي لا اختلاف زماني ولذا لم يربط بالزمن.
إن من ينكر هذا المبدأ يعمل به من حيث يشعر، أو لا يشعر؛ فحينما رد بعضهم جواز النكاح من الصغيرة ـ بالمعنى الاجتماعي ـ استشهادا بزواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة نجد أن كثيرا ممن يحاربون هذه القاعدة رد على المجيز بأن هذا خاص بالنبي لأن الدعوة تقتضي تقوية أواصره بأبي بكر، ومنهم من قال إنه صلى الله عليه وسلم تزوجها بوحي منامي، فهم إذن قد حصروها في الزمن الأول بشكل يندر تكراره وإن لم يصرحوا بذلك، وكذلك حينما استدل الإرهابيون بحادثة كعب بن الأشرف على جواز الاغتيالات عورضوا بهذه القاعدة، وأن هذا متعلق بشخص النبي وبحال الدعوة آنذاك، أي نص دعوي أو رسالي ولم تعمم طريقة القتل وهي الإتيان من مأمن ـ فأنا أتحدث هنا عن الطريقة لا القتل نفسه ـ.
وكذلك التصرف في أسرى بني قريظة وحكم سعد بن معاذ فيهم وغيره من النصوص الكثيرة التي لا يسعنا معها إلا الإقرار بهذه القاعدة أو توسيعها، إن كنا نقر بها بدلا من وصف من يقول بها بالتمييع، فمعارضوها لن يفلحوا في ردودهم تلك طالما أنهم لم يؤطروا لهذه القاعدة، فكيف يستدلون بآلية وقاعدة هم يحاربونها، فهذا من التناقض.