اعتذرت الحكومة الكندية أخيرا لضحايا المدارس الداخلية، وهل الاعتذار كافٍ ويعادل ما تعرض له السكان الأصليون من جرائم في حق الطفولة والإنسانية؟!
المدارس الهندية الداخلية في كندا، شكل مريع من أشكال التدريس لم تعهده أي ثقافة في العالم على مر العصور، وتأسست بدعم مادي من الحكومة الكندية لدمج الهنود «السكان الأصليين» في المجتمع الجديد، أي أن الغرض من وراء هذه المدارس هو الإبادة الثقافية لمجتمع السكان الأصليين، كي يسهل إدماجهم وصهرهم في بوتقة ثقافة واحدة.
تأسست أول مدرسة داخلية عام 1870، واستمر نظام المدارس الداخلية حتى عام 1990، والتحق بها حوالي 150 ألف طالب من أبناء السكان الأصليين، من العمر 4 حتى 14 سنة، ولم يكن لهم أي خيار في الانضمام إلى هذه المدارس، بل كان الأطفال يُنتزعون انتزاعا من أحضان أمهاتهم، ولا يرى الأطفال بعد ذلك آباءهم سنوات طويلة، وقد تنقطع علاقتهم بأهلهم وماضيهم إلى الأبد.
يجبر الأطفال على ترك لغتهم الأم، ومعتقداتهم الثقافية، وطريقة عيشهم، واعتناق الديانة الجديدة للمستعمر الجديد، مع التحدث باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، ولا غير، ويسري هذا النظام على كل المدارس الداخلية، والبالغ عددها 139 مدرسة، تمولها وتدعمها وتضع لها الخطط والأهداف الحكومات الكندية، منذ تاريخ تأسيسها وحتى إغلاق آخر مدرسة.
تجربة الأطفال الهنود كانت تجربة قاسية ومؤلمة، لم يراع فيها كونهم أطفالا، ولم تؤخذ أبسط حقوق الإنسان في الحسبان، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: ماذا يحدث داخل هذه المدارس، وما نوعية المعاملة التي يتعرض لها الصغار داخلها؟
أولا وقبل كل شيء: يُمنع الأطفال من التحدث بلغتهم الأم منعا باتا، لدرجة أن الطفل قد يتعرض للوخز على اللسان في حال نطق بكلمة من لغته الأم، ويُجبر الأطفال على التحدث باللغة الإنجليزية والفرنسية فقط داخل أسوار المدرسة.
يجبر الطفل على اعتناق المذهب الديني للمدرسة، وأداء الصلاة إجباريا بما يتفق مع أسلوب المذهب الديني للمدرسة. يتعرض الأطفال للإيذاء البدني والمعنوي إلى جانب سوء التغذية. يعزل الطالب عن أهله في مكان نائي مع منع الأهالي من زيارة أطفالهم. يطلق على الأطفال ألقاب عنصرية وأوصاف جارحة. وكان التحرش الجنسي بالأطفال شائعا داخل المدارس الداخلية بشهادة الناجين منها.
لقي كمّ كبير من الأطفال حتفهم، وتم دفنهم في مقابر مجهولة دون إشعار آبائهم، فأصبح يطلق على من نجا من الموت داخل هذه المدارس المخيفة مسمى الناجي «survivor»، ولكن نجاته من الموت لا تعني خروجه سالما من الناحية الجسدية والمعنوية، فكثير منهم أصيب باضطرابات نفسية وعقلية استمرت معه طوال حياته، والبعض يحمل على عاتقه ذكريات بشعة، وحقدا على مجتمعه، جعلته يعيش بؤسا وشقاء لا يطاقان.
اعتذرت الحكومة الكندية مؤخرا لضحايا المدارس الداخلية جراء الانتهاكات التي تعرضوا لها، والتي تتعارض مع أبسط حقوق الإنسان، وهل الاعتذار كافٍ ويعادل ما تعرض له السكان الأصليون من جرائم في حق الطفولة والإنسانية والتنوع الديني والثقافي؟!
إنها مأساة إنسانية كشفت جانبا مظلما من تاريخ البشرية، يجعلنا نطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل يحق للحكومة الكندية الحديث عن حقوق الإنسان بعد مأساة المدارس الداخلية؟