العدوى لا تتطلب الحضور المتزامن للأفراد في نقطة واحدة، بل يمكن أن تنتشر على البعد بتأثير من بعض الأحداث التي توجه النفوس في نفس الاتجاه وتسيطر على الجماهير، ولعل حديث الثورات والربيع العربي أكبر شاهد على مثل هذه العدوى
أثرت بعض الشخصيات البارزة في المجتمعات، سواء قديما أو حديثا، على الجماهير، وكسبت اتجاهاتهم رسخت أقوالهم وأفعالهم وتناقلها التاريخ، وأصبحوا من محركي الجماهيري والمؤثرين، وعلى الرغم أني قد أتفق مع مقولة ماكلوهان (إن الرسالة هي الوسيلة)، خاصة في وقتنا الحاضر والشواهد على ذلك كثيرة، إلا أن الوسيلة قد تكون الشخصية نفسها حتى وإن كانت وسائل الإعلام ضدها، فقد تصنع منها شخصية أقوى وذات تأثير ونفوذ منتشر بغير قصد منها، ويكون هدف الرسالة عكسيا، فتصنيف محركي الجماهير وملهميهم مختلف، فبعضهم رجال نشطون ذوو إرادة قوية، ولكن آنية ومؤقتة ونجدهم يدخلون في الانتخابات ويؤثرون على شريحة واسعة خلال الحملات الانتخابية، أو يملكون قضية رأي عام ويتعاطف المجتمع معهم، وبعضهم الآخر أكثر ندرة بكثير، وهم يمتلكون إرادة قوية ودائمة في آن معاً.
الفئة الأولى، يبدون عنيفين، شجعانا، جريئين مثل هيلاري كلينتون وسباقها نحو البيت البيض، وهم يصلحون بشكل خاص لتوجيه ضربة خاطفة، وجر الجماهير إلى ما يريدونه على الرغم من وجود الخطر في فشلهم، ولكن إذا كانت طاقة قادة كهؤلاء ضخمة وجبارة فإنها تبقى آنية ومؤقتة ولا يمكن أن تعيش طويلا. فهم يبدون عاجزين عن التفكير في الظروف الأكثر بساطة، بعد أن كانوا قد عرفوا كيف يقودون الآخرين بكل ذكاء. وهؤلاء القادة لا يستطيعون ممارسة وظيفتهم إلا بشرط أن يكونوا مقودين أنفسهم.
أما الفئة الثانية من القادة محركي الجماهير والمؤثرين على آرائهم واتجاهاتهم وسلوكهم والمتمثلة بالرجال ذوي الإدارة الدائمة، فإنهم يمارسون تأثيرا أكبر بكثير على الرغم من استخدامهم أساليب أقل بهاء وإشراقا. وفى صفوفهم نجد أمثال (كونفوشيون، محمد مهاتير، كاسترو - جيفارا). وسواء أكانوا أذكياء أو غير ذلك لأنهم يهتمون بالنتائج فقط أكثر من الوسائل والطرق، وقد يختلف المجتمع معهم في البداية، لكنهم لديهم النهاية التي يريدونها في عقولهم، فالعالم سيكون دائما لهم. فالإرادة الدائمة التي يمتلكونها تمثل المحرك الذي يستمدون قوتهم منه، وقادرة على أن تخضع كل شيء. ومهما فعلنا فلن نعرف بما فيه الكفاية مدى طاقة وإمكانات الإرادة القوية والمستمرة. فلا شيء يستطيع مقاومتها أو الوقوف في وجهها.
ومن أمثال هؤلاء الرجال العظام جسده لنا نيلسون مانديلا بين عالمين وحقق المهمة التي حاول الذين قبله أن يقوموا بها وهي التعايش السلمي بين البيض والسود، أن مثل هذه الشخصيات التي تستطيع أن تلهب عقول وعواطف الجماهير عادة ما يكون لها أدوات يستخدمونها لتكريس شخصياتهم وأعمالهم وأقوالهم وهي (التأكيد، التكرار، العدوى).
فعندما يتعلق الأمر بقيادة جمهور وجماهير معينة في لحظة معينة وفي ظرف ما وتشجيعه على ارتكاب عمل ما والإيمان به حتى الثمالة، وبذل الغالي والنفيس من أجله، فإنه ينبغي أن نؤثر عليه بواسطة محفزات فعالة. وأكثرها قدرة على الفعل والتأثير هو (النموذج والقدوة) أيضا. ذلك أنه ينبغي تهيئة الجمهور عن طريق بعض الظروف الخاصة. كما ينبغي على الشخص الذي يريد قيادتها أن يمتلك تلك الميزة: الهيبة الشخصية.
وعندما نريد أن ندخل الأفكار والتغير ببطء إلى روح الجماهير وعقلياتهم فإننا نجد أن أساليب القادة تختلف. فمنهم من يلجأ بشكل أساسي إلى أحد الأساليب الثلاثة أولاً: أسلوب التأكيد من كل محاجة عقلانية يشكل الوسيلة الموثوقة لإدخال فكرة ما في عقلية الجماهير. وكلما كان التأكيد قاطعا وخاليا من كل برهان فرض نفسه بشكل أكبر.
ثانيا: أسلوب التكرار، مثال على ذلك وزير الإعلام الألماني إبان الحرب في عهد هتلر عندما طلب من كل بيت أن يفتح المذياع لسماع الأخبار والأغاني التي تكرر العقيدة الألمانية والأهازيج بالنصر، كذلك الأمر فيما يخص رجال الصناعة الذين ينشرون سلعهم عن طريق الإعلان. ولكن الإعلان لا يكتسب تأثيرا فعليا إلا بشرط تكراره باستمرار وبنفس الكلمات والصياغات ما أمكن ذلك. كان نابليون يقول بأنه لا يوجد إلا شكل واحد جاد من أشكال البلاغة هو: التكرار. فالشيء المؤكد يتوصل عن طريق التكرار إلى الرسوخ في النفوس إلى درجة أنه يقبل كحقيقة يؤمن بها. فعندما نكرر الشيء مرارا وتكرارا ينتهي بها الأمر إلى الانغراس في تلك الزوايا العميقة للاوعي، حيث تصنع دوافع لأعمالنا. فبعد أن تمر فترة من الزمن ننسى من هو مؤلف القول المكرر، وينتهي بنا الأمر إلى حد الإيمان به كمقولة الغاية تبرر الوسيلة.
ثالثا العدوى لا تتطلب الحضور المتزامن للأفراد في نقطة واحدة، بل يمكن أن تنتشر على البعد بتأثير من بعض الأحداث التي توجه النفوس في نفس الاتجاه وتسيطر علي الجماهير، ولعل حديث الثورات والربيع العربي أكبر شاهد على مثل هذه العدوى التي تجعل من الأشخاص ينزلون إلى الشوارع دون تفكير، وهذه ميزاتها الخاصة أيضا مثل الانفجار الثوري الذي حصل في فرنسا عام (1848). فقد انطلق من باريس وامتد فجأة ليشمل جزءا كبيرا من أوروبا، فالجماهير تجد أن الأفكار والعواطف والانفعالات والعقائد الإيمانية تمتلك سلطة عدوى بنفس قوة وكثافة السلطة، فهذه الظاهرة كما يقول أحد الكتاب الفرنسيين، شبهها بصهيل الحصان في الإسطبل سرعان ما يعقبه صهال الأحصنة الأخرى في نفس الإسطبل، وأي خوف أو حركة مضطربة ما تصيب بعض الخراف سرعان ما تنتقل إلى بقية القطيع، وعـدوى الانفعالات هي التي تفسر لنا سر تلك المباغتة والمفاجأة لظاهرة الهلع والخوف.
نستطيع قيادة الجماهير بواسطة هذه الأساليب الثلاثة إذا ما كان هناك أساليب ابتكارية تلامس العواطف والعقول في آن معا. وفي كل فترة نلاحظ أن عددا قليلا من الشخصيات هي التي تطبعها بطابعها وتؤثر عليها، ثم تقلدهم الجماهير اللاواعية، ولكن لا ينبغي علي هذه الشخصيات ألا تنحرف كثيرا عن الأفكار الشائعة أو السائدة، وإنما تصنع جسرا لانتقالها من غير الممكن إلى الممكن، فحين يؤمن الجمهور معك بأنهم سوف يصنعون معك المعجزات كما صنع الفراعنة الأهرامات.