لا ننادي بالتخلي عن صفات مجتمعنا الحسنة لكن بالبعد عن المغالاة في القيام بها، وإكراه الغير على تنفيذها لمجرد حصول الرضا حتى وإن كان في ذلك إلحاق الضرر به
لا ننكر أن في سيطرة نوع من الأفكار على عقول أفراد المجتمع الكثير من الضرر، بل قد تدفع البعض وهو تحت تأثيرها إلى المطالبة بحقوق ليست له، والتحامل على من يحاول إعادته إلى جادة الحق بإفهامه أن ما يعتقد أنه حق له هو في الأصل حق عام للجميع، يحظى بتملكه من اجتمعت فيه أو لديه النسبة المشترطة للحصول على هذا الشيء، سواء أكان وظيفة أو جائزة أو غيرهما، المهم الوعي بأن اشتراط الملكية المسبقة والتي تعتمد على تدخل عناصر ليس لها علاقة بالكفاءة أو الأهلية مخالف ولا يجوز دينا ولا عرفا، حتى وقد حلله البعض لمصلحة شخصية واضعا لها مسميات تدخل في مفهوم القبلية والمساعدة الإنسانية.
هناك أوجه وطرق للمساعدة ليس فيها ضرر لأحد وتتناسب مع إمكانية الشخص وقدراته ولدى من ينوي القيام بها الصلاحية أو التفويض لتقديمها، أو هي تحت طائلته ويملك حق التصرف بها، وهي هنا تتنوع بين العينية والمادية وقد تكون معنوية تعطي الأمل في المستقبل وتحث على المثابرة والاستمرار في مجال البحث، إما عن عمل إذا كان ذلك هو المطلب أو عن تحسين وضع قائم إذا كانت الشكوى من محدودية الدخل، هذا هو المفهوم الصحيح قبل أن تتدخل مفاهيم أخرى تستند إلى تقديم مسوغات لا تتعلق بالشخص ذاته إنما بآخر لديه منصب وظيفي كبير، أو صاحب تجارة وأعمال أو يحظى بمكانة اجتماعية وسط محيطه، وهذه المسوغات تقدم جميعها تحت مصطلح نستطيع القول إنه شعبي يتكون من خمسة أحرف (واسطة)، وهذا المصطلح ليس بجديد غير أن استمرار سيطرته في المرحلة الحالية لم يعد مبررا في ظل الإجراءات المشددة من قبل الجهات الرقابية والمخولة من قبل الدولة في مسألة متابعة قضايا وأشكال الفساد، والتي يأتي من ضمن أكثر مشاكلها قضية السطو على حقوق الآخرين.
وكما أسلفنا له أشكال مختلفة لا تحدد في الحصول على وظيفة لا يملك الشخص أدنى الضوابط المحددة مسبقا لمن يشغلها، ولا بحصوله على منصب لم يقدم ما يشفع له بتقلده، ولا بنجاح في اختبار لم يستعد جيدا له، أو يرشح كفائز في مسابقة لا يعلم لها بداية أو نهاية. قد يعتبر البعض ما نذكره مبالغا فيه لكن عندما يستشري هذا الداء إلى هذه الدرجة التي نعاني منها الآن فالأمر ليس مستغربا أبدا، ودعونا أن نكون جادين في عملية البحث والتمحيص عن هذا الموضوع، ونقلب في ملفات أو سير بعض الشخصيات التي تتسيد المشهد الآن سنكتشف العجب، واللوم لن يقع عليهم فقد وجدوا من يساعدهم ليس في اجتياز العقبات وتحقيق النجاح، وإنما بغرس مبدأ التعدي على حق الآخر ومحاولة تملكه بأي طريقة كانت، فالصورة العامة وضحت له ذلك ولغيره أن الاجتهاد والطموح والتعب لا يجني شيئا، لديك معرفة بفلان ويقرب لك فلان هنا كل السبل ستفتح لك، لذلك تقاعس البعض وركن إلى الشكوى والتذمر وسوق الحجج ما أن تحثه على إعادة المحاولة وتوسيع دائرة البحث، وما هو أكثر وطأة من الاستيلاء على حقوق الآخرين بهذه الطريقة، هي تلك العدائية والحشد المجتمعي ضد من يحارب هذا الفعل ويزداد في حال كان الشخص في موقع قيادي ويحتفظ بشيء من مبادئ الحقوق والواجبات في هذا الأمر، وما هو نظامي من عدمه، تتكاثر التهم ضده وأنه أناني ولا يسعى إلى فعل الخير، هذا الفعل الذي يساق تحته كثير من التجاوزات وفي مجملها حلال صرف من وجهة نظرهم، ما دامت الوسيلة أنك تسعى لمصلحة آخر.
حول هذه القضية تحديدا الكثير من النزيهين تمت محاربتهم حتى أقصوا من مناصبهم، وقيل عنهم إنهم دفعوا ضريبة تحليهم بالنزاهة، في مجتمعنا قيم رائعة يندرج تحتها الكرم وإغاثة الملهوف وحماية المستجير والمساعدة بأنواعها، والبعض يغالي في عملية الإيفاء بهذه الصفات كما هي مواقف الكرم والنخوة والتي تصل بالبعض إلى الإسراف والتبذير المستهجن، ويقوم بذلك وهو كله يعتقد في نفسه التقصير، ومن هذا المنطلق يحمل الشخص نفسه وغيره ما لا يطاق، فقط تماشيا مع عرف قديم كانت القبائل تقوم به في زمن لا سلطة فيه منظمة لممارسات الأفراد داخل مجتمعاتهم، والتي حث عليها ديننا الحنيف إلى من تجاوز الحد فيها كما هو واقع الحال، بحيث أصبح الظلم ومصادرة الحقوق يدخلان تحت ذريعة المساعدة والفزعة، ونحن لا ننادي بالتخلي عن صفات مجتمعنا الحسنة لكن بالبعد عن المغالاة في القيام بها، وأكراه الغير على تنفيذها لمجرد حصول الرضا حتى وإن كان في ذلك إلحاق الضرر به، هناك أمر قد يساعد على تفشي مثل هذه الأعمال وهو عدم الالتزام الفعلي بما نضع أو نحدد من ضوابط وشروط وأنظمة سواء للتوظيف أو غيره، شيء منها يلغى أو يتراخى أمام مواقف أو مطالبات (واسطة) وليتها تنساق على الكل لا أن تلين إلى جانب وتتعنت بشدة في جوانب ومع أشخاص آخرين.