أحد زملائي تأثرت دراسته جدا بسبب الطلاق، اختفى تماما ولم يعد يرد على اتصالاتي، اكتشفت فيما بعد أنه رفع طلب تأجيل للبعثة، وعاد إلى بيت أهله

وصلني قبل قليل نبأ وفاة أبرز علماء الفيزياء النظرية ستيفن هوكينج، هذا العالم الذي حقق الكثير رغم معاناته من مرض نادر، يسمى التصلب الجانبي الضموري الذي أفقده حركته تدريجيا حتى أصبح مشلولا بالكامل، إلا أنه أكمل بحوثه العلمية وإنجازاته حتى أصبح أسطورة علم الفيزياء، وسجل اسمه بالذهب على صفحات التاريخ التي لن تنساه ولا يمكن أن تتطرق لعظماء الفيزياء دون أن تذكر اسمه أولا قبل كل نظرائه.
أكثر ما يثير حزني واستيائي أن أرى بعض زملائي المبتعثين وهم يحملون حقائبهم عائدين إلى الوطن دون أن يحققوا الهدف الرئيس الذي أتوا من أجله، أحد زملائي تأثرت دراسته جدا بسبب الطلاق، اختفى تماما ولم يعد يرد على اتصالاتي، اكتشفت فيما بعد أنه رفع طلب تأجيل للبعثة، وعاد إلى بيت أهله، اتصل بي بعد شهرين من الغياب، يريد مني أن أساعده في تسليم شقته للمالك وشحن أثاثه وألعاب ابنته الصغيرة من الصين إلى السعودية، حاولت كثيرا أن أثنيه عن قرار تأجيل بعثته التي قد تلغى لو طلب تمديد تأجيلها لأكثر من المدة التي غاب فيها، ولكنه كان يقع تحت وطأة اكتئاب ما بعد الانفصال من شريكة الحياة، لم يقاوم من أجل دراسته، بل سمح لظروفه أن تهزمه ويخسر كل السنوات التي عمل فيها جاهدا للحصول على الشهادة العليا التي يحلم بها.
دكتورة العيون المتفوقة علياء عنونت أول اختبار لها بمادة التعبير، وهي في الصف الرابع الابتدائي بـ «أشتاق إليكِ»، كانت تعبر فيه عن مدى اشتياقها لأمها البعيدة عنها التي تقع في الضفة الأخرى من البحر الأحمر إثر انشطار عائلتها المبكر، بعد انفصال والديها عاشت علياء في الرياض مع والدها معلم اللغة الإنجليزية، ورحلت أمها المهندسة الكيميائية إلى الإسكندرية، مخلفين وراءهما طفلة تنمو برفقة الفقد منذ وقت مبكر من طفولتها، افتقدت رؤية أمها، وافتقدت أن تنعم بقبلة منها قبل أن تحمل حقيبتها الصغيرة إلى المدرسة، كان جل ما تحمله روح علياء هو وصية أمها لها قبل أن ترحل بأن تجتهد في دراستها، وبأنه لا أحد سيمنحها ما تريده بقدر ما يمنحها العلم، زرعت أمها وصيتها الكبيرة بقلبها الصغير، ورحلت مؤمنة بأن صغيرتها ستكون على قدر كبير من النضال من أجل تنفيذ وصيتها. لم تغفل علياء أي وسيلة للتفوق الدراسي، وداومت على أن تصل عودتها من المدرسة بالمذاكرة وحل الواجبات والتحضير لدروس الغد التي تفهمها قبل أن تهم مدرساتها بعناء الشرح. لم تترك علياء أي فرصة إلا واغتنمتها لتردف تفوق العام الماضي بالعام الحالي، وكان لها ما أرادت وأكثر. المركز الأول هو موقعها الطبيعي منذ التحاقها بالصفوف الدراسية حتى تخرجت من الثانوية العامة محققة المركز الأول على مستوى المملكة العربية السعودية بمعدل 100%. حتى الآن لم تغب عن ذاكرة علياء نشوة الفرح التي اعترت صدر والدها عندما وصله خبر تفوق ابنته على جميع طلاب وطالبات السعودية، أقبل عليها بصدر يتراقص فرحا وضمها ولف بها مردداً أنت اليوم أجمل عروس. لتفوقها الدراسي قُبلت بكلية الطب بجامعتي الإسكندرية والملك سعود وأختارت أن تلتحق بجامعة الملك سعود. تخصصت علياء بعد ذلك بطب العيون إلى أن تخرجت وكعادتها وبكل ثقة بالمركز الأول على خريجي دفعتها من طالبات وطلاب كلية الطب بجامعة الملك سعود.
افتقاد وحرمان عيني علياء لرؤية أمها طوال فترة طفولتها وشبابها لم يمنحها سوى فرصة لأن تكون طبيبة عيون متفوقة تمنح مرضاها أملاً بأن ينعموا برؤية من يحبون، عيون علياء الفقيرة برؤية والدتها جعلت من أناملها وعقلها مصدراً لثراء الفرص بأن ينعم مرضاها بنظر سليم مرة أخرى.
قد تحرمنا الحياة أشخاصا نحبهم ونمضي من بعدهم بقلوب أنهكها الفقد، وقد تحرمنا الصحة أو أشياء أخرى، ولكننا بإيماننا نستطيع أن نحولها إلى فرصة ثمينة لأن نكون أفضل، وقد تكون فرصة لأن نكون بجوار من فقدناهم في أماكن أخرى أن نحضنهم بشتى الطرق، أن نمتلئ برؤيتهم، وذلك بأن نمنح فرص الأمل للآخرين ولو بأبسط الأشياء فكيف بنا لو حذونا حذو علياء وهي تمنح بسخاء فرص الأمل لمرضى العيون.