لم نسمع بالبراءة على مدى التاريخ الإسلامي إلا مع الثورة الإيرانية، وما يصاحبها من فوضى أدت في مواسم حج سابقة إلى كارثة أُزهقت بسببها أرواح بريئة

بعد أن منَّ الله -سبحانه وتعالى- على نبيه الكريم بفتح مكة المكرمة في السنة الثامنة للهجرة، وتعيين عتّاب بن أسِيْد والياً عليها، أصبح الحج إلى مكة المكرمة ميسورا، والطرق الموصلة إليها آمنة، ولم يكن يمنع النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحج بالمسلمين في السنة التالية إلا ما كان عليه بعض فلول المشركين من تأدية مناسك حجهم على الطريقة الجاهلية، بما في ذلك طوافهم عراة حول البيت العتيق، ولم يشأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخالط المشركين حجهم على تلك الصورة في السنة التاسعة، فأوكل إلى أبي بكر الصديق -رضي الله- عنه إمارة الحج بالناس في تلك السنة، وتعليمهم أمور حجهم. وبعد خروج أبي بكر الصديق من المدينة نزلت سورة التوبة مستهلة آياتها بالبراءة من المشركين بقوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين/ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين).
فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- علياً بن أبي طالب -رضي الله عنه- باللحاق بأبي بكر، وقراءة هذه السورة في الموسم، وإعلان البراءة من المشركين بما في ذلك منعهم منعا باتا من الحج إلى مكة وهم على شركهم، وقصر الحج فقط بعد تلك السنة على من هم على ملّة الإسلام، فلما لحق علي بأبي بكر -رضي الله عنهما- سأله إن كان أميرا أو مأمورا، فقال علي بل مأمورا، ثم مضيا معاً إلى مكة، فأقام أبوبكر الحج للناس. وفي يوم النحر قام علي -رضي الله عنه- بإبلاغ الناس ما أمره رسول الله بإبلاغه من قراءة براءة، والأذان فيهم (دون مظاهرة أو صخب إعلامي) بألا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله فهو إلى مدته، (الجزيري، الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المكرمة، بيروت،1422هـ/ 2002م، ج1، ص250-251)، ومنذ ذلك العام لم يحج إلى مكة مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، واقتصر الحج عبر القرون على من هم على ملة الإسلام، ولم تعد هنالك حاجة إلى أذان جديد بالبراءة من المشركين، ولم يحفظ لنا التاريخ الإسلامي في سجلاته الدقيقة (سنية كانت أم شيعية) أي قول أو فعل بتكرار البراءة في مواسم الحج بعد تلك السنة مروراً بحج النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة العاشرة للهجرة، وهي الحجة المعروفة بحجة الوداع، ثم في عهد الخلفاء الراشدين بمن فيهم عهد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- الذي أمر بأن يحج بالناس نيابة عنه عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- في عام 37هـ وقُثَم بن العباس في عام 38هـ، وعبيد الله بن العباس في عام 39هـ، ولم يؤثر عن أي من هؤلاء الثلاثة الذين تأمروا على الحج من قبل الخليفة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنهم نادوا بالبراءة من أي ملة من الملل غير الإسلامية (الجزيري، المصدر نفسه، ص256-257)، والأمر نفسه ينطبق على خلفاء بني أمية، وخلفاء بني العباس، الذين كان معظم أمراء الحج في زمانهم من بيت النبوة، خصوصا في عهد أمراء بني بُوَيْه وهم شيعة دَيَالِمَة، وكانت لهم السيطرة المطلقة على الخلافة العباسية في المدة من سنة 334هـ إلى سنة 447هـ، وليس للخلفاء العباسيين معهم أي سلطة، ومع ذلك لم تشر المصادر التاريخية الموثوقة إلى أنهم مارسوا أي فعل في موسم الحج بمكة يستند إلى البراءة من المشركين، ومثل البويهيين الفاطميون وهم شيعة أيضاً، إذ لم يؤثر عنهم أنهم تظاهروا أو نادوا بالبراءة من المشركين في الحج، وأيضا أشراف مكة الذين كانوا في شطر غير قليل من حكمهم على المذهب الشيعي الزيدي لم يفكروا حتى مجرد التفكير في التظاهر بدعوى التبرؤ من المشركين في الحج مع أنهم أولى بالخليفة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لانتسابهم إليه، ولا أظن مسلما عاقلا ومتدبرا لقول الحق تعالى على مستوى العالم إلا ويدرك أن آية البراءة كانت رسالة محددة وموجهة لمشركي ذلك الزمن الذين كانوا يخالطون المسلمين في حجهم، وكانت لهم منازلهم المعروفة التي ينزلون فيها في مكة والمشاعر المقدسة، وكان بين بعضهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- عهود نصت عليها الآية الكريمة.
ولم نسمع بالبراءة على مدى التاريخ الإسلامي إلا مع الثورة الإيرانية، وما يصاحبها من فوضى أدت في مواسم حج سابقة إلى كارثة أُزهقت بسببها أرواح بريئة من المواطنين السعوديين، ومن الحجاج، وحتى من الإيرانيين أنفسهم، متناسين أن الحج عبادة وسكينة، وأن من يحج إلى بيت الله الحرام يتعين عليه ألا يرفث ولا يفسق ولا يجادل في الحج بنص القرآن الكريم (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا فيه من خير يعلمه الله).
ومن يخالف ذلك فحجه باطل، وعليه وزره وأوزار الملايين من الحجاج الذين يفدون إلى مكة من كل فج عميق في سكينة ووقار إلا حاج إيران. ومن حق المملكة التي أخذت على عاتقها منذ تأسيسها على يد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- تسخير كل إمكاناتها في سبيل أمن الحج وإراحة الحجيج، من حقها والحالة هذه أن تتخذ كافة التدابير لمنع العبث بأمن الحج، وجلب الأذى والفوضى وعدم السكينة للحجاج والمعتمرين والزوار إلى بيت الله الحرام ومسجد رسوله، صلى الله عليه وسلم.