الفترة الزمنية التي سيمضيها الشاب المتخرج حديثاً في القوات العسكرية، ستصنع منه مقاتلاً مؤهلاً مدرباً، يتحول بعدها هو وزملاؤه إلى قوة احتياطية، يمكن استدعاؤها عند الضرورة
قبل أشهر، ومع بدء الحرب على الجبهة اليمنية، دعا سماحة مفتي عام المملكة، رئيس هيئة كِبار العلماء، رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، إلى التجنيد الإجباري للشباب. ولعلي أقتبس مما قاله سماحته قوله: لا بد من تهيئة شبابنا التهيئة الصالحة؛ ليكونوا لنا درعاً للجهاد في سبيل الله ضد أعداء الدين والوطن، وأضاف سماحته: التجنيد الإجباري -إذا وُفّقت الأمة له- سيساهم في إعداد الشباب لأداء المهام.
ولا أقول إنني هنا أؤيد هذا التوجه وحسب، بل إنني منذ زمن مبكر، وأنا أتساءل: لماذا لا نعمل بهذا النظام المعمول به في كثير من الدول ذات التجارب الناجحة على صعيد المواطنة والانتماء؟. لا نقلل بالطبع من مواطنة شباننا وانتمائهم لبلادهم، لكننا يجب أن نعترف في المقابل بأننا نحتل مرتبة متقدمة في دول المنطقة التي نجح أصحاب الفكر الضال في اختراق صفوف شبانها والظفر بنصيب غير يسير من عقول أبنائها، ومعظمهم كما تكشف الإحصاءات من فئة الشبان، التي أصبحت ثغرة مفتوحة أمام هذه الجماعات المتطرفة، ربما لا يكفي الفكر والمناظرات والخطب فقط لسدها، في حين أن تجربة دخول الشاب الخدمة العسكرية كفيلة بأن لا تسدها وحسب، بل تصنع من هذا الشاب مدافعاً عن ثغور وطنه، وصمام أمان له؛ لأننا حين نوكل إليه مهمة حماية هذا الوطن، سيدرك مع الوقت أنه أمانة في رقبته، وأن واجبه الدائم الحفاظ عليه والدفاع عنه، وأصدق شاهد على ذلك قدر الانتماء والمواطنة الفائقين وقدر الشعور بالمسؤولية الذي يتمتع به أبناؤنا منسوبو القوات العسكرية، أولئك الذين يقدمون دماءهم فداء لوطنهم، وشتان بين من يقدم الدماء فداءً، ومن يسفك دماء بني وطنه تحت دعاوى باطلة متطرفة بعد خضوعه لعمليات غسل دماغ على أيدي أعداء وطنه، ربما لا يبرأ منها أبداً.
بهذا المفهوم تكون القوات العسكرية حصناً فكرياً منيعاً، يدخله الشاب، فيتعلم قيم الانتماء والمسؤولية تجاه بلاده، وتُكسِبه عقيدته القتالية العسكرية مناعة عصية على الاختراق في مواجهة أي محاولة تسلل فكري. والسؤال: ما دامت التجربة بهذا النجاح الكبير، فما الذي يؤخرنا عن اتخاذ مثل هذه الخطوة، في بلد في أمس الحاجة إليها الآن، في ظل المسؤوليات الكبرى التي تضطلع بها بلادنا اليوم نيابة عن أمتها، بعدما تصدرت المشهد السياسي والعسكري في المنطقة، وأخذت بزمام المبادرة، وهو استحقاق له ما بعده؟ فلا يفترض والحال تلك أن ننتظر دعماً من الأشقاء فيما يخص العنصر البشري، ودولتنا دولة شابة تتفوق نسبة الشبان فيها على بقية شرائح مواطنيها، وفق الإحصاءات السكانية الرسمية، فضلاً عن أنه لا ينقص شباننا القوة ولا الشجاعة ولا الهمة، فكثير من التجارب التي مرت بها المملكة، كشف عن معدن شباننا الأصيل، ومروءتهم التي من الواضح أنها في جيناتهم، ورثوها كابراً عن كابر، فنحن أهل شجاعة وإقدام، بشهادة تاريخ ما هو منا ببعيد، وجيوش المؤسس دليل ما زال حاضراً بين أيدينا.
أيضاً ليست هذه الفائدة الوحيدة المرجوة من وراء تجنيد الشبان، فالوظائف العسكرية ستكون أفقاً واسعاً مفتوحاً أمام أبنائنا يعصمهم من التردي في مهاوي البطالة وما قد تجره عليهم من انتكاسات فكرية وإنسانية، فما من شك في أن الوظائف العسكرية في ظل حاجة المملكة للتوسع في بناء قاعدة بشرية قوية في قواتها العسكرية مستقبلاً تكون سنداً لها في استحقاقاتها المقبلة، بمقدورها أن تستوعب قطاعاً كبيراً من الشبان، في الفترة الانتقالية من أعمارهم التي تعقب تخرجهم، وتسبق التحاقهم بوظائف الدولة المدنية، وهي الفترة بالغة الصعوبة في حياة الشاب، تلك الفترة الصعبة التي يتطلع فيها الشاب إلى توقف اعتماده على أهله في النفقات، والاضطلاع بأعبائه ومسؤولياته في الحياة، بل ودعم أسرته، وفي هذه الحالة سيكون الالتحاق بالعسكرية حلاً يحقق تطلعات جميع الأطراف، تطلعات الدولة إلى بناء قاعدة عسكرية من أبنائها الذين تضمن ولاءهم وانتماءهم؛ لأنهم في الأخير يدافعون عن أمن بلادهم وسيادتها ومصالحها، لذا سيكونون مقاتلين أشداء، وأيضاً تضمن تحصينهم فكرياً ضد أي محاولة تسلل فكري لعقولهم من واقع تجربة ميدانية تعرف المؤسسة العسكرية كيف تديرها، وكيف تربي منسوبيها على الانتماء لبلادهم، لأن هذا من صميم عملها الذي تأكد لنا جميعاً أنها تؤديه بكفاءة عالية، ولا نبالغ إذا قلنا إن نسبة نجاحها في هذا الجانب 100%، وفي الوقت نفسه، يجد الشاب المتخرج حديثاً ضالته في الفكاك من براثن البطالة التي يلتحق بها فور تخرجه.
ويجب ألا نغفل أيضاً أن الفترة الزمنية التي سيمضيها الشاب المتخرج حديثاً في القوات العسكرية، ستصنع منه مقاتلاً مؤهلاً مدرباً، يتحول بعدها هو وزملاؤه إلى قوة احتياطية، يمكن استدعاؤها عند الضرورة فيما يسمى بالتعبئة العامة، وهذا يقفز بتعداد قوات الجيش السعودي إلى رقم كبير مع مرور الزمن، وهو أمر له ثقله في الحسابات العسكرية، وفي تقييم الجيوش من لدن المؤسسات المتخصصة في هذا الشأن حول العالم. وعلى الرغم من أن تصنيف جيشنا السعودي ولله الحمد، تصنيف متقدم بين دول المنطقة والعالم، لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن يتوقف سقف طموحنا للقفز بهذا التصنيف بعيداً في المقدمة، فنحن بفضل الله لا ينقصنا المال ولا الرجال. ولا أتحدث عن التصنيف هنا بوصفه قيمة في حد ذاته، شأن تصنيفات الجامعات، بقدر ما سيكون إحدى الورقات الرابحة في موازين القوى في المنطقة العربية والعالم، وبقدر ما سيكون رقماً يحسب له ألف حساب لدى القوى الإقليمية المعادية، في مستقبل سيكون فيه البقاء للأقوى.