تلكم الفتاة القروية الغارقة في متاهات العمل اليومي، بين رعي وحويق ونزع ماء. لم تمهلها قسوة الزمن لتعيش شعور العروس المدللة. تعتلي تلك المنصة الأنيقة ذات الإضاءة المزدوجة، والأشعة الليزرية، والبخار المتصاعد بشكل كثيف يعطي شاعرية وفخامة أكثر. لم تمد أمامها سجادة حمراء طويلة تسير عليها وهي تجر ذيل فستانها باهظ الثمن، لتنثر فوق هامتها بتلات الورد.
تلكم أمي التي لم تبدأ التجهيز ليوم زفافها قبله ببضعة أشهر، فتخضع لعمليات التقشير، وتبحث عن خبيرات البشرة، وتحجز أمهر مصففات الشعر.
لم تلتقف مهرا غاليا يجعلها تتردد على الأسواق. تبتاع أجمل الشنط وأفخم الأقمشة وأغلى المجوهرات والساعات.
أمي كان مهرها فريقة، والفريقة لمن لا يعرفها هي قطعة سجادة قديمة مصنوعة يدويا من الصوف، وكانت من أثمن مقتنيات أبي، لذلك قرر أن يهبها مهرا لأمي.
لم تكن أمي تنتظر السيارة الفارهة تقلها لقاعة الفرح، بل سارت طريقها إلى حياتها الجديدة سيرا على الأقدام، مرورا بالأودية والجبال، واستبشرت بأنها مقبلة على حياة مختلفة خضراء راوية تشبه ذلك الوادي الذي مرت به. كان الماء جاريا فيه، وجنباته يكوسها ثوب أخضر، ومثل ذلك المنظر كان أقصى سعادتهم أمي والرعيل الأول. وصلت عش زواجها الجديد، ولم تتخذ مكانا قصيا يواريها عن الأعين حتى لحظة الزفاف، بل بدأت فور وصولها في إعداد الطعام للضيوف، وجاءت بالماء من البئر، وأكملت يوما اعتياديا لم تشعر فيه أنها غريبة عن البيئة والمكان، فهي كتلك التي ودعتها.
لم ترسم أحلاما: كيف ستقضي شهرا في إحدى الدول الأوروبية؟!
أمي ورفيقاتها عشن زمن قلة العيش والترف، لكن عشن غنى النفوس ورغد المشاعر، يتقاسمن مع أزواجهن تفاصيل الشقاء ووعثاء الحياة بكل رضا وقناعة. يصنعن من نهاراتهن مفارقات عجيبة مبهجة، ومن لياليهن سمرا وغناء وحبا.
لا يشتكين الملل من حياتهن، ولا يفتقدن إلى العلاقات الاجتماعية. دائما ما يكن معا طيلة النهار والليل. لم تفرض الأبواب والهواتف عليهن مواعيد محددة جافة.
عشن اتزان العلاقة مع الزوج والجار والضيف والناس كافة. عندما كان المهر فريقة أو ريا? أو.. أو..، أي أن المادة التي لم تكن هي المأمول بقدر ما يكون الأمل في رجل يقدر معنى الزواج.
في تلك الأيام، لم تكن هناك حالات طلاق وعنف ضد المرأة، وجرائم وبيوت غير مستقرة بسبب المشاكل الزوجية.
زمن الفريقة كان مختلفا عن زمن الترف؟ كان أكثر اتزانا ووعيا، ودائما ما أردد:
الأصل في القرى هو الوعي، حتى جاءنا المد بكل أنواعه.