وإذا نظرنا لحال الصائم لساعات طويلة ولو كان بلا عمل، أو من يعمل تحت أشعة الشمس صيفا فلا شك أنهما ممن يقدر عليه مع المشقة، ولذا يجوز لهما الإفطار مع الفدية حتى وإن لم يخش المرض أو الضرر البدني
يصادف هذا العام مرور أطول ساعات نهار في رمضان، حيث سيصل الصيام إلى عشرين ساعة في بعض الدول الأوروبية، ويصادف أيضا تزامنه مع فصل الصيف الذي ترتفع فيه درجات الحرارة، وهذا يحتم علينا أن نعيد النظر في حكم صيام هذه الساعات الطويلة التي قد تصل إلى عشرين ساعة أو الصيام في هذا الحر الشديد لمن يعمل تحت أشعة الشمس بأعمال مرهقة كالبناء أو نظافة الشوارع أو غيرهما، ولا شك أن تأخر ظهور فتوى تراعي حال هؤلاء في هذا الظرف دليل على ما نشتكي منه دائما من ابتعاد الفقه المعاصر عن الحياة المعاصرة، فلم تظهر إلا فتاوى يسيرة ومنزوية وعلى استحياء ومعتمدة على أصل التيسير لا تأصيل مرتبط بآيات الصيام نفسها، فما زال فقهنا أسير الفقه القديم الذي لم يضعه أصحابه لهذا الزمن وإنما لأزمنتهم، فحينما اعتمد المعاصرون على قول القدماء أنه لا يجوز إفطار الفرّان، أي من يعمل خبازا أمام الفرن، لم يكن في تصورهم شخص يعمل أمام الفرن لعدة ساعات في درجة حرارة خارجية تتجاوز الخمس والأربعين درجة وبشكل متكرر ويومي، وهذا إذا اعتبرناه صحيحا فقد يكون حكمهم خطأ، فهم ليسوا بمعصومين عن الخطأ، ومما يدل على التناقض في الفقه المعاصر هو أنهم يجيزون الإفطار لمن سافر بسيارته المكيفة ساعة لأنها قطعت أكثر من مسافة قصر، ولا يجيزون الإفطار للصائم عشرين ساعة أو من يعمل في الحر الشديد، والشريعة لا يمكن أن تكون بهذا التناقض لمجرد أن القدماء قالوا بالإفطار لقطع المسافة، وقالوا بالصيام لمجرد وجود ليل ونهار.
ولو أتينا إلى القرآن لوجدنا الدليل الصريح على جواز إفطار هذين الصنفين، فقوله تعالى فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين دليل على جواز إفطارهم، فمعنى يطيقونه أي يستطيعونه مع المشقة، وليس كما يتردد من أن معناها لا يستطيعونه، أو أنها خاصة بالشيخ الكبير أو الحامل أو المرضع، وإنما كل من يشق عليه الصيام وإن قدر عليه، فالآية أباحت أولا للمسافر بالدواب والمريض الفطر بلا فدية، لأن غالب حالهما أنهما لا يستطيعان الصيام، ثم انتقلت إلى من هو دونهما، وهو من يستطيع الصيام ولكن بمشقة، فأباحت له الإفطار مع القضاء والفدية، فالفدية مقابل الاستطاعة بخلاف المسافر والمريض فليس لهما استطاعة وبالتالي لا فدية، وهذا يعني أن حاله أقل من حالهما وإلا لما فرضت الفدية عليه دونهما، وبالتالي لا يراد بها الهرم والعاجز ومن خشي الضرر أو الإغماء والحامل الضعيفة، فهؤلاء أشد ممن يطيقه وفي حكم المريض ولا يسن لهم الصوم في حين أن الآية قالت بعدها وأن تصوموا خير لكم، وصيام هؤلاء ليس خيرا لهم، مما يعني أن المراد من يقدر عليه فهذا الصوم خير له، إضافة إلى أن الشارع لا يلزم العاجز نهائيا بأي بديل كمن لا يستطيع الحج، أو الصلاة بسبب الإغماء، أو الوضوء أو التيمم أو إخراج الزكاة فإنهم لا يقدمون بديلا، ولا معنى للنسخ أيضا فالجمع بين النصين أولى.
وإذا نظرنا لحال الصائم لساعات طويلة ولو كان بلا عمل، أو من يعمل تحت أشعة الشمس صيفا فلا شك أنهما ممن يقدر عليه مع المشقة، ولذا يجوز لهما الإفطار مع الفدية حتى وإن لم يخش المرض أو الضرر البدني، وهي إطعام مسكين مقابل كل يوم يفطره ثم قضاؤه في الشتاء، والصوم أفضل لهما، إضافة إلى أن الله قد قال يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولا يوجد أكثر من هذا العسر في صوم هذه الساعات الطويلة إذا كان صيامه أكثر من عشر ساعات أثناء يقظته، فالعسر لا يراد به الهلاك، واليسر لا يراد به الحياة، إذ لو كان كذلك لما أجاز إفطار المسافر لأنه لا يهلك، بل يجوز لهذا العامل الإفطار منذ ساعات الصباح الأولى إن تيقن أنه سيعمل في الظهيرة في الحر، وإن شك في أنه سيعمل أو لا فلا يفطر حتى يتعرض للحر.