عبدالرحمن المرزوقي

الإيمان حالة وجودية لا حدود لها، وهو مفهوم يتجاوز القيود المذهبية والطائفية والفقهية. الإيمان حر بقدر حرية الإنسان الجوهرية التي اختصه الله بها من بين سائر المخلوقات. الإيمان يستوطن روح الإنسان الأبدية المطلقة، التي لا تحدها قيود ولا يسعها الكون بأسره. كلما تقيّد الإيمان اختنقت الروح. الإيمان والروح الإنسانية يعيشان معاً في العالم المطلق الذي يفوق العالم المادي المحدود. وكل محاولة لتقييد الإيمان بمذهب فقهي، أو عقيدة تأويلية، أو طائفة حزبية، يفقد الإيمان خصوصيته المطلقة المتوافقة مع الروح الإنسانية.

الإيمان شعور وجودي يفوق حدود المذاهب الفقهية والتفسيرات العقائدية والطوائف. أما الفقه والعقائد المذهبية، فهي محاولات لتفسير الدين وفق متطلبات الجماعة المؤمنة في سياقات زمنية ومكانية محددة. بينما الإيمان يتجاوز الزمان والمكان، وهو حالة أبدية من الشعور بالله، تسبق كل محاولة لفهم الدين أو تأويله. الإيمان حالة وجودية يعيشها الإنسان ليحيا مع الله شعوريًا، بعيدًا عن التقييد الفقهي والعقدي.

فالفقه، على سبيل المثال، هو القانون الذي ينظم حياة الناس وفق الشريعة. والفقه في جوهره يحتاج إلى تفسير وتأويل مستمرين، وفق تطورات الواقع والتغيرات الطارئة على المجتمعات عبر الزمن.

لو نلاحظ، الفقه يُعد قانونًا شرعيًا لتنظيم التعاملات بين البشر في معظم حالاته. وهذا الجانب القانوني في الفقه يقتصر على تنظيم العلاقات بين الأفراد، ويبرز عند وقوع الخلافات. كذلك العقائد الطائفية، فهي تأويلات لاهوتية تسعى لفهم الإيمان من منظور منطقي، وتتأثر بظروف العصر وسياقات المؤسسين وأتباعهم.

بينما الإيمان ينزل على قلب المؤمن كنور داخلي، يسبق الفقه والعقائد، بل ويستبق تشكل الطوائف والمذاهب. فالإيمان لا يتطلب الإطار الفقهي القانوني ليترسخ في قلب المؤمن. إضافة إلى ذلك، الإيمان غالبًا ما يتحقق قبل أن يخضع لأي تحليل منطقي. لذلك، عندما نتأمل الإيمان نجده حالة وجودية تتجاوز الفقه بوصفه قانونًا، والعقيدة بوصفها تأويلًا منطقيًا. الإيمان نزعة جوهرية تنبع من أعماق الروح، ولا تحتاج غالبًا إلى العقائد التأويلية أو القانون الفقهي كي تتحقق.

الإيمان فضاء وجودي رحب غير محدود، بينما الفقه والعقائد فضاء أخلاقي مقيد بالتعاملات والمصلحة العامة والتفسيرات المنطقية التي تتشكل وفق سقف المعرفة البشرية في زمان ومكان معين. ولا ننسى تأثير الظروف الاجتماعية والسياسية على تشكل المذاهب الفقهية والعقدية.

الإيمان فيضٌ رحماني يغمر الأرواح البشرية بالطمأنينة والسكينة المطلقة، بلا قيود. الإيمان شعور ذاتي متفرد، يعيشه المؤمن بتجربة خاصة لا تشابه تجربة غيره. بينما الفقه والعقائد والطوائف تصب في مصلحة الجماعة أكثر من الفرد، إذ تهدف إلى تنظيم المجتمع، وتحقيق المصلحة العامة، وتعزيز جودة الحياة. لذلك، الإيمان في جوهره لطفٌ رحماني، يتجلى عبر الطقوس والشعائر الدينية التي تمنح المؤمن تجربة وجودية مستقرة، حيث يعبر من خلالها عن نشوة الإيمان بعيدًا عن قيود الفقه والعقائد التي تظل محكومة بظروف الواقع. ولهذا نجد كثيرا من المشككين في الدين لا يعترضون على الطقوس والشعائر، بل يتركز اعتراضهم على الأحكام الفقهية الصارمة والعقائد المتشددة. وهذا يدل على أن الإيمان المتجلي عبر الطقوس والشعائر حالة وجودية لا تتقاطع مع حياة الآخرين، ويعشيها المؤمن بتجربته الخاصة التي يسكن فيها هدوؤه الوجودي.

لذا، لا بد من التمييز بين ماهية الإيمان وماهية الفقه والعقائد، حتى لا يتأثر الإيمان بتغير الأحكام الفقهية والتوجهات العقائدية.

الإيمان الرحماني مرتبط بالدين بوصفه تجربة وجودية، في حين أن الإيمان الفقهي مرتبط بالدين بوصفه نظامًا قانونيًا. وعليهِ يُفترض أن يظل الفقه منظمًا للتعاملات والأخلاق، دون أن يتداخل مع جوهر الإيمان الوجودي.