علي الشريمي

في طيبة الطيبة، حيث الأثير يمتزج بعبق الإيمان، تشرق بعض الأرواح كالأقمار في سماء حالكة، تنير الدروب وتخطف الأبصار. ومن بين تلك الأرواح، كانت أم زوجتي «خديجة»، تلك السيدة التي لم تُنجبني، لكنها أصحبتني من معاني الأمومة ما لم يكن ليخطر على بالي. كيف لا ووالدتها تحكي عنها قائلة: «هي ليست ابنتي بل كانت أمي» نعم هي سيدة تسكن القلوب قبل أن تسكن الحي، كانت الأوقات معها دومًا سهلة، رغم تحديات الحياة ومشاقها. يا لها من امرأة تحمل سكونًا غير طبيعي، وطمأنينةً تُشبه نسائم الفجر المنعشة، تُخمد نيران القلق في النفوس وتبدد غيوم الحزن.

رجب، ذلك الشهر المبارك، جاء هذا العام يحمل في طياته غيابًا مؤلمًا. فقدنا فيه هذه السيدة العظيمة التي اعتادت نفحاتها أن تمر علينا بكثير من السعادة والسكينة. كانت أم عباس «خديجة» دومًا النبض الهادئ في أحلك الظروف، تُحسن الاستماع وتُجيد التعبير عن المشاعر، تلقي بكلماتها حبًا ومودةً في قلوب الجميع، حتى في أوقات الألم. كانت مثالًا حيًّا للأسرة المتلاحمة التي تجتمع على حب الله ورسوله، وكانت لها بصمة مميزة في تجمع السيدات في منزلها الخاص، حيث تتحول أركان بيتها إلى واحة من الإيمان والسكينة.

كانت تُعدّ مجلسها نقطة انطلاق للروحانية في قلوب النساء، وملاذًا لهنّ في زحمة الحياة.

مع كل هلال يشرق في سماء رمضان، كانت هذه التجمعات تتألق أكثر، كأنها تتزين بعبق القرآن الكريم وأحاديث الرسول الكريم. تُعقد حلقات الذكر بانتظام، حيث يجلسنَ معًا من كل جانب، تتعالى أصواتهنّ بالتلاوة واستذكار تعاليم الرسول الكريم وأهل بيته الكرام، كأنهن يُقمن الجسور نحو الروحانية وينسجن خيوط المحبة والأخوة.

كان مجلس خديجة يفيض بحميمية المحبة، إذ كانت تُرحّب بالجميع بوجه بشوش وهالة من الطمأنينة. يُصبح المكان مُلاذًا آمنًا يبعث في النفوس الأمل، ويُطهر القلوب من الأدران، حيث تتدفق الآيات الكريمة وتُستحضر الأحاديث الشريفة، فتوقع كل واحدة منهن في دوامة من التأمل والتفكر في معاني الإيمان.

كانت الخواتيم تُتبّع، والأسئلة تُطرح، والذكريات تُسترجع، مما يعمّق الروابط بين السيدات ويقوي عرى الألفة والمحبة. كانت تُعتبر قائدة روحانية تلهم الحاضرات، بفضل إخلاصها وتفانيها في نشر السكينة والنور. ففي كل مرة تلتقي فيها الأرواح وتشهد تلك المجالس، تُضفي خديجة لمساتها الخاصة على كل اجتماع، وتجعل من لحظات التأمل والتعلم تجربة تُخلّد في قلوب الحاضرات، ليبقى صداها يتردد في أروقة البيت وحارات المدينة المنورة، مع كل ذكرٍ يُتلى وكل حديث يُستذكر، كانت تُشعِل الفرح في نفوس الأطفال والأحفاد، وتجعل من لمّ الشمل مناسبةً تعيد الحياة إلى الروح.

لم تكن أم عباس مجرد أم، بل كانت قلبًا كبيرًا يحتضن الكلّ، تُسامح بلا حدود، وتُحب بلا قيد، كان صوت ضحكتها الهادئ يرسخ بعمق في ذاكرتنا، وكلماتها المملوءة بالحب تعلمنا أن الحياة ليست مجرد معانٍ فردية بل هي تجارب مشتركة.

كانت تُعيد ترتيب الأولويات في حياتنا، تُعلّمنا كيف نُعلي من شأن الروح الجماعية، وكيف نُقوي روابطنا الأسرية، فنشعر بأن لكل فرد مكانته الخاصة.

والآن، ونحن في رمضان، يعكس القلب بوضوح الحزن العميق الذي تركته خديجة خلفها. لكننا نعلم أن إرثها سيبقى يرفرف في أجواء عائلتنا، فكرمها وحبها الصادق سيظل يحيط بنا كالمظلة التي تحمي من هبات الرياح القاسية.

رحم الله أم عباس، وأسكنها فسيح جناته. إن فقدانها يعكس لنا معنى العطاء الحقيقي وحلاوة العيش في طاعة الله. فلتستمر ذكراها العطرة في قلوبنا، ولتكن دروسها النبراس الذي ينير دروبنا ونحن نعيش في كنف المحبة والتسامح، تمامًا كما تعلمنا منها. نبتهل إلى الله في هذا الشهر الفضيل أن يرحمها الله ويتقبلها في أعلى عليين، فهي بحق امرأة صالحة ستبقى تضيء بذكراها كل لحظة من لحظات حياتنا.