محمد السعيدي

الأمم لا تنسى جراحاتها التي تنزف، ولكنها تُشِيحُ ببصرها عنها حين تعجز عن إيقاف نزيفها، وتكون أكثر صدًا وكأنها قد نسيتها حين تجد بهجة وأنسًا في مكان آخر تصد بصرها إليه عن ذلك الجرح النازف المؤلم.

هكذا هي الحياة، وهو ما نعيشه اليوم في قلة الحديث عن مأساتنا في غزة، وكأنها لم تكن قبل أيام قد شغلتنا عن كل ما نراه من أحداث حولنا، وليس منا إلا من يصيح في العدو الصهيوني: أوقفوا القتل، دعوا المباني الشامخات تؤوي أهلها، أتركوا النازحين في خيامهم، دعوا قوافل الإغاثة تتحرك، وليس منا إلا من ينادي العالم لإيقاف الحرب بأي وسيلة، ويقول للدول التي جعلت العلاقة طبيعية مع اليهود: أين ثمن التطبيع الذي صنعتموه مع العدو إن لم يكن في هذه اللحظة.

نعم.. هكذا كنا قبل أيام، فلما يئسنا وأعز الله الإسلام في سورية انشغلنا بما هنالك، وبمتابعته وإعلان السرور الغامر به، عن ذكر ما يجري في غزة، وكأنما قد وُدِي قتلاها وعولج جرحاها وعُمِر خرابها وآُوِّي مشردوها، نعم نحن كذلك ولم نزل على قلةٍ في ذكر غزة وأهلها، على رغم شدة البرد الذي لم يعد أهل غزة يتقونه سوى بخيام جاءتهم تبرعًا من السعودية وغيرها، ومن لم يحصل على خيمة توقى بقماش وأخشاب وبقايا بيوت مهدمة، في وضع شديد السوء والبؤس الذي نستعيذ الله منه صباحًا ومساءً.

وعلى رغم استمرار القتل في أهل فلسطين، وإن كان قد قلَّ في هذه الأيام، ولا أدري ما هو سبب قِلَّتِه رغم انكشاف الفلسطينيين أكثر، هل انشغال اليهود بلبنان وسوريا، أم هو خلافهم المعلن الصريح حول أهل غزة: هل يستحقون الإبادة أم لا؟.

المهم أن غزة لازالت في مأساة تتعاظم كل يوم، وحماس لازالت كما خبرناها أول مرة على تعنتها وشدتها في موضوع الأسرى، وكأنها تسعى إلى ما يريده اليهود وهو مزيدُ من القتل والأسر في أهل غزة.

كما أننا نرى الصهاينة في مفاوضاتهم مع حماس لا يشترطون زوالها مع أنها عدوتهم، ولعلها ترى أن بقاءها سيبقي الفلسطينيين مفرقين على ولاءين سياسيين، وربما كثرت الولاءات السياسية، فنرى ولاء للسلفيين وولاء للجهاديين وولاء للعلمانيين غير المنتمين للسلطة الفلسطينية؛ وهذا التشتت سيخدم حتمًا سلطة اليهود في المنطقة؛ وقد يقول قائل: إن اليهود أيضًا منقسمون، ونسمع منهم كثيرًا من السباب، والخروج عن النمط المعهود في السياسات الدولية من الشتائم غير المعهودة، لا في عالمنا العربي ولا في جميع دول العالم؛ وهذا كلام صحيح، لكن افتراق اليهود لا يعني عندهم الخروج عن سيادة الدولة ولا عن مفهومها، فكل واحد منهم، سواء أكان الشاتم أم المشتوم يبقى في الدولة وإن شتمها، ذلك الشتم الذي يخرج عن أعراف السياسيين في كل مكان.

أما حماس والسلطة فليس بينهما أي ارتباط يدعو إلى الالتزام بشيء من المبادئ، ولم تقم حماس إلا على مبدأ الثورة على الواقع، وإحداث واقع ملائم لها، ولم يكن الواقع الذي أحدثته حماس، وهو استقلال غزة عن الضفة الغربية، أسوأ من الواقع الذي تحت يد السلطة من حيث حسن المعيشة والأمن، وربما كان أفضل منه فيما يتعلق بالقضاء والأحكام الشرعية، إلا أن قيادة حماس اتخذت من إيران قائدًا ثوريًا تتوجه برأيها في كل تحركاتها مع الصهاينة، وتلك جعلت من حماس وسيلة تضغط بها على الدولة المزعومة في أي وقت تشاء، وقيادة ذلك الكيان تعرف كل ما يجري بينهما وتطمئن إليه، فإذا أراد اليهود إرهاق حماس بقتل الشعب الفلسطيني وتدمير بنيته، أفسحت لإيران بدعم حماس كي تضرب في القبة الحديدية الصهيونية ما تشاء من صواريخ، ثُمَّ عاقَبَتْها بضرب غزة بالطائرات، حيث لا قبة ولا حتى خيمات.

ولم تكن الضحايا في تلك الضربات ابتداءً من 2006 تتجاوز العشرة آلاف في أكثر التقديرات، إلا أن الضربة الأخيرة فاقت المائة ألف على أصح التقديرات، وهو رقم لم يعطنا إياه أي من الفلسطينيين أو اليهود، ولكنه الرقم الصحيح الذي تحكيه آلام المفجوعين الذين نراهم كل يوم يدفنون الشهداء أو يسألون عن المفقودين أو يتعاهدون الجرحى الذين لم يخبرنا أحد ماذا صنعوا بعد جراحهم.

مائة ألف قتيل في ازدياد يوميًا في مقابل مائة أسير يهودي كانوا أكثر من مائتين وما زالوا يتناقصون، ولن يتوقف القصف كما يقول الصهاينة حتى يُتَسَلَّم الأسرى، ولن يسلم الحماسيون الأسرى حتى ينسحب الصهاينة، هذا على قول كلِ طرف، أما الواقع، فما ذكرته كان في الماضي، وكانت حماس رغم كونها المصابة، ومن واجبها الرضوخ آنذاك والقبول بما يحفظ ماء الوجه، إلا أنها لم تفعل شيئًا سوى مزيد من الإصرار على الرفض، هذا في الماضي، أما في الحاضر فلم تُفِدْنا الدول المشاركة في الحوار بشيء يذكر، لكن ما يلوح بين الأسطر هو أن التوقف الآن من جهة اليهود وليس من جهة حماس، وذلك فيما يبدو للوعيد الذي قدمه ترامب بين يدي ولايته، إما تسليم الرهائن أو الجحيم، فلم يكن للفريقين إلا هذا، ولو أن حماس اختارت تسليم الرهائن من قبل لكان العالم معها، ولكنها أخرت هذا الخيار إلى هذا الوقت فلم تجد إلا هذا التصلب من العدو الصهيوني.

ونحن نعلم، وسبق وكتبت، أن اليهود يرومون أن تفتح مصر المعبر، وحينئذٍ سوف تختفي غزة وقضيتها إلى أن يأذن الله، ومع ألمنا الشديد لما يصيب الغزيين إلا أننا نرى مصابهم أهون كثيرًا من فقدهم وطنهم، ولو استمر الحال كما هو حتى يتولى ترامب، فهل سَيُنَفِّذُ وعيده؟ نقول أولاً: إن الله تعالى سيكفي المؤمنين بقُوَتِه وفضله، وهو فوق الجميع -سبحانه وتعالى.

وحال آخر أذكر به حماس وهو حالها في جنين هي والجهاد، وذلك في الهجمات التي تُنسب إليهما ضد السلطة الفلسطينية، وليس حديثي تأييدًا للسلطة، ولكنني أتساءل ألم يكف حماس من قتله اليهود بسببها في غزة، وتريد مقتلة في الضفة أيضًا، وليس هنا مقام التفصيل في مخاطر القتال، وهو تفصيل لا يخفى على أحد، ولكنه مقام للحديث عن وضع حماس السيئ، وأنه ينبغي على الدول العربية أن تسعى لكي لا تبقي في رأس السلطة بعد انقضاء أزمة غزة قريبًا بحول الله، كما تسعى للإصلاح من شأن السلطة وقيادتها.