محمد السعد

نالت البنيوية اهتماما كبيرا في ساحة الأندية الأدبية العربية والمحلية في حقبة الثمانينيات والتسعينيات قبل أن يخفت بريقها، وارتبطت بأسماء شخصيات عربية ومحلية حملت على عاتقها تسويق النظرية في المجتمع العلمي والثقافي، وانقلبت الأعمال الأدبية القديمة لنماذج تطبق عليها أغرب النظريات. وصل الحال لظهور شخصيات على القنوات الفضائية تفسر الآيات القرآنية بأساليب في غاية الغرابة، وتصدر أحكاما تتعارض مع أبسط قواعد اللغة والمنطق.

شاعت مفاهيم مصاحبة للنظرية البنيوية «التفكيكية والنسق والمضمر» واعتقادات أن النصوص الأدبية تنطوي على مجازات وعلامات خفية ومعانٍ باطنية وأخرى ظاهرية أو سطحية. ما يعني أن تطبيق النظرية البنيوية وملحقاتها على نماذج من التراث الديني والأدبي العربي يمكن أن ينتج قراءات جديدة للنصوص قد تتعارض مع معرفتنا المسبقة باللغة الإنسانية البسيطة.

ذكرنا في مقالة سابقة أن النظرية البنيوية لها أصل صوفي؛ بمعنى أنها معرفة صوفية باطنية ولا يمكن لها أن تصبح نظرية علمية، وهنا يمكن الاعتراض على قضية إقحامها في المقررات الجامعية والرسائل العلمية. لغة الإنسانية وما تنتجه من شعر وأدب وخطابات ومواعظ لا تنطوي على مجازات ومعانٍ باطنية يحتاج لها تفكيك وتشريح. والاعتقاد بوجود «بنية» وأنساق ومعانٍ مضمرة مستوحى في حقيقة الأمر من الموروث الديني للشعوب الأوروبية -التصوف اليوناني تحديدا- بمعنى أن الاعتقاد بوجود مجاز أو معانٍ باطنية لا يتجاوز كونه محض أسطورة.

رفض فكرة الباطن والظاهر هو رفض لفكرة وجود الأسرار المقدسة في الكتب الدينية التي لا يعرفها إلا صفوة منتخبة من الناس، والبنيوية والتفكيكية تفترض وجود أسرار في النصوص الأدبية، ما يتطلب وجود ناقد ذي إمكانات خاصة يبحث عن أسرار النص التي لا يعرفها حتى مؤلف النص نفسه، ويستخرج من باطن النص معانٍ جديدة وقراءات مفتوحة لا حصر لها، لأن الناقد البنيوي أو التفكيكي أو التشريحي قادر على تفكيك الأحجيات والألغاز في النص، والخروج بقراءات جديدة لا يدركها عامة الناس. وهذه مجرد أوهام وأساطير شاعت للأسف في الأوساط العلمية والأكاديمية وأصبحت مسلمات وحقائق لا تقبل الجدل.

لغتنا لا توجد فيها نصوص، سواءً كان نصا مقدسا أو أدبيا، لها أسرار تكمن في الخفاء والباطن والأعماق، الله سبحانه وتعالى يخاطبنا بلغتنا التي ندركها ولا نحتاج لناقد أدبي يقوم بتفكيك النصوص ويعري الغيب ويكشف لنا عن المستتر والمضمر والباطن والعلامة والشفرة. المعاني القرآنية متاحة للجميع ولا توجد فيها أسرار وعلامات ورموز خفية.

البنيوية والتفكيكية ممارسات باطنية صوفية تعتقد أن النص ينطوي على كيانات ومقامات وحقائق مستترة، وهذا أوهم جملة من الناس بوجود إمكانات لا متناهية للنص وجعلهم يؤمنون بوجود جانبين للنصوص، جانب باطني وآخر ظاهري. فحسب الاعتقاد الصوفي عند الشعوب الأوروبية فإن النفس الإنسانية يمكن أن تعود إلى أصلها الإلهي بالرجوع التدريجي الصاعد إلى الله عبر سلسلة من الدرجات والمقامات الروحية، وهذا المعتقد أُسقط على اللغة والنصوص الأدبية، وأصبح للغة مقامات ومعانٍ تتدرج من الظاهر إلى الباطن.

لغتنا الإنسانية وفهمنا التلقائي - حسب الأسطورة البنيوية - غير ملائمين لإعطائنا أي معرفة حقيقية بالنصوص لأنها غير كافية للكشف عما تضمره هذه النصوص من معانٍ مفتوحة غير مقيدة. وفهمنا البشري التلقائي لا يستطيع الكشف عن المضمر وتفكيك النسق، لذلك فإن لغتنا الإنسانية دائما ما تضلنا عن الحق. هنا يعود أصل فكرة البنيوية والتفكيكية التي تتردد كثيرا في الأندية الأدبية والساحات الثقافية، أن أصل الفكرة يعود للاعتقاد الديني بوجود لغة باطنية تحتاج لعمليات تفكيك واختراق وحفر للوصول إلى معانٍ باطنية غير موجودة في لغتنا الإنسانية، ومن هنا بزغت فكرة موت المؤلف التي لا تتجاوز كونها أسطورة دينية قديمة حاول بعض اللغويين الأوروبيين إعادة إحيائها وتوظيفها في الدراسات النقدية المعاصرة.