عبدالله الزازان

تقوم الخصوصية الثقافية على فلسفة وطنية منفتحة، وفقًا لمعطيات حضارية وإنسانية منسجمة مع رؤية 2030، ومجسدة لأوجه الحياة الثقافية بتنوعاتها وتطلعاتها وحيويتها كمشروع حضاري وإنساني. تشكَّل وتمازج في بوتقة متفردة في إطار الوحدة الوطنية، مكونًا ثقافة وطنية واحدة، آخذة في الاعتبار خصوصيتنا كبلد متميز في تكوينه وتجربته.

أما علاقتنا مع الآخر- وما نعنيه بالآخر الـمجتمعات الإنسانية بجميع أديانها وحضاراتها وأوطانها - فتقوم على الانفتاح على الثقافات والمجتمعات الإنسانية بعقلانية وموضوعية وحضارية وإنسانية، والاعتراف بالآخر من غير حدود أو قيود يتجاوز معنى التسامح، ويعزز الثقة المتبادلة على قاعدة تغليب الرؤية الحضارية والإنسانية على الرؤية الضيقة.

ولذلك ينظر العالم إلى التسامح كـمبدأ أخلاقي وقيمة إنسانية. وقد سعى الغرب من خلال هيئاته ومنظوماته ومؤسساته الإنسانية إلى اعتبار التسامح ركنًا أساسيًا لحقوق الإنسان، وأطلق على عام 1995 [عام التسامح]. حيث يؤكد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك على قيمة التسامح في الحياة الإنسانية، ويعتبره الفيلسوف الفرنسي فولتير النتيجة الملازمة لكينونتنا البشرية.

وقد عرف العصر الحديث كثيرا من المتنورين الموضوعيين ذوي الاتجاه الإنساني والذين عرفوا بنزعتهم السلمية، كغاندي ونيلسون مانديلا وبول كاغامي وأونغ سان سوكي وليو تولستوي وفولتير.

فالتسامح بمعناه الحضاري اللغة الإنسانية التي يقوم عليها الجذر الأخلاقي للبشرية، ولذلك فالعلاقة مع الآخر مبدأ تسامحي وقيمة أخلاقية، فكثير من الأحداث المأساوية التي تحدث في العالم بسبب غياب التسامح.

فالعزلة القائمة بين الثقافات والمجتمعات الإنسانية تسببت في الكثير من الأزمات في العالم، رغم أن الثقافة الرقمية قربت الأبعاد، وكسرت طوق العزلة موحدة الإنسانية على الأقل افتراضياً، حيث أوجدت وسائل التواصل الاجتماعي حيوية عالمية، وفتحت الباب لما يعرف بالمواطنة الافتراضية العالمية.

فالتواصل الإنساني يؤدي إلى تبادل الأفكار مع الآخر والتلاقي على قاعدة عولـمة إنسانية، من خلال تفعيل حركة تواصل إنساني في دورة من التعارف الحضاري. فالمجتمعات الإنسانية وما أنتجته من حضارات هي نتاج وفتوحات إنسانية، هذا النتاج الإنساني هو تراث للبشرية باختلاف أديانها وأجناسها، لا يستأثر به مجتمع دون مجتمع أو حضارة دون أخرى، وقد حدث خلال دورات الحضارات المختلفة أن تأخذ حضارة عن أخرى، ثم يأتي طور تكون فيه الآخذة معطية. وعند ذلك تتواصل المجتمعات البشرية، وتتكامل، وتتبادل الأفكار والمعارف. ولذلك فالعلاقة مع الآخر في فلسفة العالم الحديث لم تعد مسألة خيار، فالمجتمعات الإنسانية تلتقي ليس فقط على مصالحها، بل إنها تلتقي كذلك على القواسم الإنسانية المشتركة.

فعندما تتواصل المجتمعات، يؤثر بعضها في بعض. هذا التواصل لا يؤدي إلى تأثير من جانب واحد فحسب، بل إلى تفاعل، وتبادل من الجوانب المختلفة. لذا كلما كانت المجتمعات المتواصلة متقاربة، كان التبادل بينها أشمل وأكثر تنوعًا، لأنه لا يقتصر على الأشياء المادية فحسب، بل يتعداها إلى المضامين الفكرية والثقافية والعلمية والتقنية.

وعند ذلك يكون التواصل مع الآخر ضرورة عملية وحضارية وإنسانية يفرضها الواقع العالمي القائم على الاتصال والتفاعل والقواسم المشتركة بين المجتمعات الإنسانية والانفتاح على التجارب الإنسانية.

ويعد التواصل من أهم قصايا هذ العصر - ولا سيما التواصل المعرفي وما أفرزته ثورة المعلومات والاتصالات، والتي تعتبر فضاءً عالميًا لاختبار مدى فاعلية العلاقة مع الآخر.

فالعلاقة الثنائية القائمة بين البشر على مفهوم التكامل الإيجابي تبدو في الرؤية العميقة المغزى الإنساني لفكرة التواصل، والمتضمنة قبولًا للآخر. والتي تمثل الموقف النظري الصحيح في الرؤية الإنسانية. لذلك فإن مبدأ قبول الآخر النمط الذي شكل طبيعة العلاقات الإنسانية.

فالفكر المنفتح على تجسير العلاقات مع الآخر ظل هو الأفق الذي لازم الفكر الإنساني. والذي يحيل على معنى التسامح. ولهذا لا يمكن لمن يدعو إلى العلاقة مع الآخر إلا أن يكون متسامحًا.

ولكن عندما ننظر إلى عالمنا المعاصر نجد مجتمعات وشعوبًا مختلفة تتقارب وتتعاون وتتواصل في بعض الوجوه، وتتباعد وتتقاطع في وجوه أخرى. فلا تزال قوى التباعد والانقسام أقوى من قوى التقارب. فلا يزال إحساس الفرد بجنسه وقوميته، وجماعته، وربعه، أكثر من إحساسه بإنسانيته.

فالمجتمعات الإنسانية واحدة من حيث طبيعتها وخصائصها. فالحضارات الإنسانية تتشابه في بعض وجوهها تشابهًا أصيلًا، وذلك بسبب انبثاقها جميعًا من طبيعة إنسانية واحدة.

فإذا ما نظرنا إلى ثورة الاتصالات، والتي انتشرت في أنحاء الأرض، وانتشر معها وعيها المشترك، وما أفرزه هذا الوعي المشترك من التوحد وتكوين مجتمع إنساني موحد ضد الأزمات والحروب التي تحدث في العالم.

فما يقرّب بين الثقافات والمجتمعات الإنسانية هو الأفكار وليست المسافات، وتنشئة أفراد منفتحين على ثقافة الآخرين قادرين على التعامل مع العالم بوسائل تسامحية، وذلك بالانفتاح على التيارات الثقافية والمجتمعات الإنسانية، وبناء علاقات تواصل ثقافي حضاري وإنساني مع مختلف الثقافات العالمية، عبر مد جسور علاقات التواصل مع الآخر، وتبادل الأفكار بشفافية وموضوعية.