شهدت متصرفيّةُ القدس إبّان العهد العثمانيّ صدورَ عددٍ من المطبوعات الصحافيّة نذكر منها: مجلّة «المورد» لجرجس الخوري المقدسي، مجلّة «النفائس العصريّة» لخليل بيدس، «جريدة فلسطين» لعيسى العيسى. أمّا في العام 1908 فقد أصدر الصحافيّ جرجي حبيب حنانيا في مدينة القدس، وهو المولود فيها، مطبوعة باللّغة العربيّة سمّاها «القدس» استمرّت حتّى العام 1914. هذه المطبوعة بسنواتها ما بين الصدور والإغلاق شكّلت مادّةً تحليليّة للباحث والمؤرِّخ الدكتور ماهر الشريف نتج عنها الكتاب الذي بين أيدينا «جريدة القدس وبواكير الحداثة في لواء أو متصرفيّة القدس» .
يتساءل الشريف في تقييمه لأداء الجريدة التحريريّة وكيفيّة تعاطيها مع أحداث تلك السنوات عمّا إذا كان حنانيا قد اقترب من الترويج للحداثة، وهل تُبيِّن محتويات «جريدة القدس» فعلاً أنّها كانت أداة لترويج أُسس المجتمع الحديث؟
في هذا السياق، أشير إلى العديد من المؤلّفات الموثّقة عن بدايات دخول المجتمع المدينيّ الفلسطيني في تجارب التحديث صدرت تباعاً، ومنها ما تخبرنا عنه الباحثة منار حسن في كتابها «المغيّبات: النساء والمُدن الفلسطينيّة حتّى سنة 1948»، الصادر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، والذي تحكي فيه عن براعم التحضُّر التي بدأت بعد منتصف القرن 19 في فلسطين، والتي شملتِ القطاعات الثقافيّة والاجتماعيّة كافّة وتأسيس الجمعيّات، فضلاً عن دَور المرأة.
يورِد الشريف ملاحظات في تقييمه لأداء «جريدة القدس»، ومنها «أنّ شعار الجريدة شعار حداثيّ هو حريّة، مساواة، إخاء» (شعار الثورة الفرنسيّة)، وأنّ صاحبها كان مطّلعاً على أفكار أوروبا الحديثة، فعمل على المُناداة بتعميم المدارس الوطنيّة الحديثة، ونشْر الجرائد، وتأسيس الجمعيّات، إضافة إلى أهميّة تطوير القطاعات الإنتاجيّة، وهي الزراعة والصناعة والتجارة، واستخراج المعادن، فضلاً عن دعوته إلى تعليم المرأة وتوفير شروط العمل لها.
يتضمَّن الكتاب عشرة فصول استنبط الشريف من محتوياتها ما يخدم سرديّة التوعية بالتحديث وأساليب الحداثة، ومنها تركيز الجريدة على مُحارَبة الآفات الاجتماعيّة، وتأكيد أنّ العرب في فلسطين امتلكوا خصائص قوميّة وثقافيّة مميَّزة، وأنّ ارتباطهم بالأرض التي يعيشون فوقها لم يكُن واهياً، مع إشارته إلى «أنها كانت جريدة مُحايدة في التركيز على مخاطر الصهيونيّة» ونشْرِ التوعية الوطنيّة والهويّاتيّة بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني الذي كان قد اكتسب هذا الوعي من خلال تواصله مع العرب «البيروتيّين» الذين دعوا إلى اللّامركزيّة الإداريّة خلال العهد العثماني وإلى الاعتراف باللّغة العربيّة لغةً رسميّة في ظلّ السلطنة العثمانيّة.
إسعاف النشاشيبي
في افتتاحيّة العدد الأوّل من سنة صدورها الثانيّة حثَّ حنانيا المجتمعَ نحو التحديث والتمدين والاقتباس عن الغرب، و»لكن ليس اقتباساً أعمى»، وإنّما «اكتساب القيَم الأساسيّة منه كالاتّحاد والعدل»، مع انتقاده للوجه «الاستعماري والحربي للغرب»، مُتّهماً «دول أوروبا بالتزاحم في سبيل الاستعمار» (ص19)، فكتب سنة 1912 محذّراً الغرب من الشرق لأنّ «نهضة اليابان والصين ويقظة تركيا وفارس بمثابة شعار للآسيويّين» .
عن «جريدة القدس والتعبير عن هويّة متعدّدة الأبعاد»
جمعتِ الجريدة ما بين ولاء مركزي إلى أمّة كبيرة متمثّلة بالأمّة العثمانيّة من جهة، وولاءات جزئيّة من جهة ثانية متمثّلة بالولاء إلى «شعب فلسطيني» أو إلى «قطر فلسطيني»، وكذلك بالولاء إلى العرب أو نادراً إلى أمّة عربيّة، مع ضعف التنبيه إلى مخاطر الحركة الصهيونيّة والاستيطان اليهودي. فانطوت مقالات حنانيا على «مواقف مناهضة للصهيونيّة ومؤيّدة لها في آنٍ واحد»، وموقفه كان أقرب إلى الحياد «حتّى في ما يتعلّق بأخبار مجيئهم وشرائهم أراضي في فلسطين»؛ لا بل نقلتِ الجريدة أخبار هذه الحركة على صعيد العالَم ومنها مؤتمر بال الصهيوني في العدد 256 السنة الثالثة لصدور الجريدة في 9 و22 أغسطس 1911، وجاء فيه: «إنّ هذا المؤتمر افتُتح في 9 أغسطس، وكان المؤتمر الصهيوني العالمي العاشر بحضور 1600 شخص بينهم 120 صحافيّاً، وقد أشار رئيس المنظّمة الصهيونيّة العالميّة آنذاك ديفيد وولفسون في خطابه الافتتاحي إلى تقدُّم الصهيونيّة في العالَم بأسره وإلى توطّدها النهائي، وأنّ أحوال الشعب اليهودي سيّئة في كلّ مكان ما خلا تركيا، فإنّ اليهود فيها يتمتّعون بالمساواة التامّة». ولكنّ بعض كتّاب الجريدة كان يُنبّه في مقالاته أو قصائده بصورة واضحة إلى مخاطر المشروع الصهيوني وعمليّات بيع الأراضي إلى اليهود على مستقبل فلسطين وصبغتها العربيّة، ومن هؤلاء الكتّاب الأديب المعروف إسعاف النشاشيبي .
ثمّة مُفارَقة لافتة هي أنّ حنانيا الدّاعي إلى التحديث في المجتمع العربي وجَّه نقده إلى أحد صاحبَيْ جريدة «المفيد» التي كانت تصدر في بيروت، وهو عبد الغني العريسي الذي كان من أنصار الدعوة للقوميّة العربيّة، والدعوة إلى اللّامركزيّة وإجراء إصلاحات.
وتعطينا الجريدة تصوُّراً عن متصرفيّة القدس أو لواء القدس؛ عن مُدنه وبلديّاته وحياة سكّانه الاقتصاديّة. وتَذكر «أنّ أغلبيّة سكّان هذا اللّواء كانوا من المسلمين، عدد قليل من المسيحيّين يتوزّعون على طوائف الروم الأرثوذكس، وهُم النسبة الأكبر، ثمّ اللّاتين والكاثوليك والأرمن والسريان والأقباط، وفي القدس والخليل بعض اليهود من السفرديم أي اليهود الشرقيّين»؛ وأنّ مشكلاتها قائمة في «تخلُّف بِناها التحتيّة، طرقاتها، عدم نظافتها، انتشار الأوبئة، الافتقار إلى المياه، مع أنّ فلسطين قطر يقصده سنويّاً ألوفٌ مؤلَّفة من الإفرنج الأجانب، وهي مكرَّمة من المسلمين والمسيحيّين والإسرائيليّين، لأنّها تحتوي على تذكارات وآثار عزيزة على كلّ هذه الطوائف الثلات. ونقده لتعيين مأموري البوسطة العثمانيّة (البريد) بأنّهم «أشخاص أميّين»، وفي مشكلة نقص عدد أفراد البوليس وازدحام السجون وسوء أوضاعها الصحيّة، وتراكُم المحاكم في النظر في الدعاوى، وأيضاً مشكلة تلاعُب تجّار المدينة بالموازين، والمتشرّدين المنتشرين في شوارع المدينة، وظاهرة الفقر، والسياسات التي كانت تمارسها الحكومة، والتي تفرض ضرائب باهظة على الفلّاح تحول دون تطوير الزراعة، وإلى الأزمة الاقتصاديّة التي واجهَها لواءُ القدس وكانت أزمة «المتاليك» أي التلاعب بالعملة، ما أَسهم في تضخُّم الأسعار.
من جهةٍ ثانية، هناك ما يُدلِّل على مدينيّة جوانب الحياة الاقتصاديّة، وهو وجود الهيئات الاقتصاديّة العاملة في القدس: البنك التجاري الفلسطيني، وشركة سكك الحديد، وغرفة التجارة، وهيئات مصرفيّة وماليّة مثل البنك الزراعي وبنك فلسطين الألماني، البنك السلطاني العثماني، شركة الأنغلوفلسطين المحدودة في القدس وفي يافا، وتوافُر الحياة التعليميّة والثقافيّة والعلميّة والتعليميّة، ومكانة المدارس الوطنيّة في تطوير التعليم. كما عرضت الجريدة بإسهاب لوقائع الاجتماعات الثقافيّة التي كانت تنظّمها الجمعيّات المتعدّدة والخطابات الأدبيّة والعلميّة التي كانت تُلقى فيها، والتي كانت مظهراً من مظاهر الحياة الثقافيّة، وأنّ «للجمعيّة الروسيّة الفلسطينيّة مئة ومدرستَيْن في فلسطين ترمي إلى نشْرِ المبادئ الروسيّة وتوسيع نفوذ روسية السياسي في فلسطين، وأنّ أولاد العرب في هذه المدارس يتلقّون المبادئ الروسيّة».
زيارة جرجي بك زيدان
عن مظاهر الحياة الثقافيّة أبرزت الجريدة دَور غرف القراءة والمكتبات، وعرّفت القرّاء بوجوه الثقافة العربيّة والعالميّة، ونقلتْ وقائع الاحتفال الثقافي التكريمي الذي نُظّم بمناسبة زيارة الكاتب اللّبناني المُتمصّر وصاحب مجلّة «الهلال» جرجي بك زيدان بصحبة عقيلته لمدينة القدس، واحتفت الجريدة أيضاً بأهل العلم والأدب، ولكنّها حذَّرت في الوقت نفسه من بعض الأمراض التي يُمكن أن تصيبهم، ومنها مرض الغرور.
لقد عرفَ لواء القدس الحياةَ النيابيّة للمرّة الأولى عندما أصدر السلطان العثماني عبد الحميد في ديسمبر 1876 الدستورَ العثماني أو القانون الأساسي الذي نصّ على تشكيل المجلس العمومي من «مجلس المبعوثان ومجلس الأعيان»، وأعارت جريدة القدس اهتماماً كبيراً للصفات التي يجب أن يتحلّى بها المرشَّح لمنصب نائب في مجلس المبعوثان، وكذلك للحملة الانتخابيّة التي دارت لانتخاب مبعوثي اللّواء، فاكتفت بنشر أخبار اثنَيْن من المرشّحين للانتخابات من أصل عشرة هُما نظيف بك الخالدي مهندس شعبة المدينة المنوّرة في خطّ الحجاز، وأسحق ليفي مفتّش الزراعة في ولايتَيْ سوريا وبيروت سابقاً، وشنّت حملةً على مسلكيّات بعض المبعوثين ومواقفهم وعدم فعاليّتهم واستهتارهم بالمسؤوليّة المُلقاة على عاتقهم «كأنّهم لم يُرسلوا الى عاصمة الآستانة إلّا لقضاء الوقت والتسلية والمجالس الفارغة والمباحث التي لا طائل منها». كما تطرَّقت إلى الأنشطة الاجتماعيّة والسياسيّة، إذ كان لجمعيّة الاتّحاد والترقّي فرعٌ ناشط في مدينة القدس، وفي أحد نشاطاته الأولى دعا إلى «دعْم مشروع إنشاء أسطول حربي عثماني»، كما نشرتْ أخبار «المساعدات التي قدَّمتها جمعيّة الهلال الأحمر في مدينة القدس عندما قامت سفنٌ حربيّة إيطاليّة في فبراير 1912 بقصْف سفن حربيّة عثمانيّة وإغراقها في ميناء بيروت، فقرَّرت إدارة هذه الشعبة في اجتماعٍ عقدته يوم الأحد 19 فبراير و2 مارس 1912 أن ترسل إلى بيروت 5000 فرنكٍ لمساعدة عائلات الشهداء والجرحى في حادثة بيروت المشؤومة».
وإلى جانب نشْرها أخبار مناسبات الأعياد لكلّ طائفة من المسلمين والمسيحيّين واليهود الشرقيّين، والمناسبات الوطنيّة، فإنّها احتفت بأخبار الحياة الفنيّة في لواء القدس، وكان فنّ التمثيل من أبرز الفنون المَقدسيّة التي تغطّيها، إلى جانب فنّ التصوير والرسم والموسيقى والغناء، وألعاب السيرك والرياضة، ولاسيّما كرة القدم، وفنّ السينما التي دخلت القدس في مرحلة مبكّرة، مُنتقدةً عدم احترام الجمهور المُتمثّل «بعدم الصمت في أثناء المشاهدة»، في حين كانت الصور المتحرّكة التي ينطوي عليها هذا الفنّ آنذاك تطوف في بعض المسارح والمحلّات، مثل تياترو أنيستي ومحلّ فاينكولد، ونال خليل رعد الذي أُطلق عليه لقب «مصوِّر شمسيّ العائلة الملكيّة الألمانيّة» شهرة واسعة (أقيم في بيروت في العام 2022 معرضٌ تكريمي للمصوِّر رعد 1854 - 1957 ضمَّ 64 صورة من أصل 3000 موجودة في أرشيف مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة)، فضلاً عن عروض الموسيقى والغناء التي كانت تجري في المدينة.
يتميّز الكتاب بدلالاتٍ تتعدّى التركيز على الحداثة والتطوير، لكونه يتضمّن كمّاً هائلاً من المعلومات والأخبار التي قد تُستخْدم لاستيلاد كتبٍ بموضوعاتٍ مختلفة، ولاسيّما في علم الأنتروبولوجيا، إضافة إلى أسلوب د. ماهر الشريف التوثيقيّ/ المُمتع في سياق النصّ وسرْد الأخبار، وكأنّنا على تماسٍّ راهنيّ مطلع كلّ صباح.
* إعلاميّة من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.
يتساءل الشريف في تقييمه لأداء الجريدة التحريريّة وكيفيّة تعاطيها مع أحداث تلك السنوات عمّا إذا كان حنانيا قد اقترب من الترويج للحداثة، وهل تُبيِّن محتويات «جريدة القدس» فعلاً أنّها كانت أداة لترويج أُسس المجتمع الحديث؟
في هذا السياق، أشير إلى العديد من المؤلّفات الموثّقة عن بدايات دخول المجتمع المدينيّ الفلسطيني في تجارب التحديث صدرت تباعاً، ومنها ما تخبرنا عنه الباحثة منار حسن في كتابها «المغيّبات: النساء والمُدن الفلسطينيّة حتّى سنة 1948»، الصادر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، والذي تحكي فيه عن براعم التحضُّر التي بدأت بعد منتصف القرن 19 في فلسطين، والتي شملتِ القطاعات الثقافيّة والاجتماعيّة كافّة وتأسيس الجمعيّات، فضلاً عن دَور المرأة.
يورِد الشريف ملاحظات في تقييمه لأداء «جريدة القدس»، ومنها «أنّ شعار الجريدة شعار حداثيّ هو حريّة، مساواة، إخاء» (شعار الثورة الفرنسيّة)، وأنّ صاحبها كان مطّلعاً على أفكار أوروبا الحديثة، فعمل على المُناداة بتعميم المدارس الوطنيّة الحديثة، ونشْر الجرائد، وتأسيس الجمعيّات، إضافة إلى أهميّة تطوير القطاعات الإنتاجيّة، وهي الزراعة والصناعة والتجارة، واستخراج المعادن، فضلاً عن دعوته إلى تعليم المرأة وتوفير شروط العمل لها.
يتضمَّن الكتاب عشرة فصول استنبط الشريف من محتوياتها ما يخدم سرديّة التوعية بالتحديث وأساليب الحداثة، ومنها تركيز الجريدة على مُحارَبة الآفات الاجتماعيّة، وتأكيد أنّ العرب في فلسطين امتلكوا خصائص قوميّة وثقافيّة مميَّزة، وأنّ ارتباطهم بالأرض التي يعيشون فوقها لم يكُن واهياً، مع إشارته إلى «أنها كانت جريدة مُحايدة في التركيز على مخاطر الصهيونيّة» ونشْرِ التوعية الوطنيّة والهويّاتيّة بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني الذي كان قد اكتسب هذا الوعي من خلال تواصله مع العرب «البيروتيّين» الذين دعوا إلى اللّامركزيّة الإداريّة خلال العهد العثماني وإلى الاعتراف باللّغة العربيّة لغةً رسميّة في ظلّ السلطنة العثمانيّة.
إسعاف النشاشيبي
في افتتاحيّة العدد الأوّل من سنة صدورها الثانيّة حثَّ حنانيا المجتمعَ نحو التحديث والتمدين والاقتباس عن الغرب، و»لكن ليس اقتباساً أعمى»، وإنّما «اكتساب القيَم الأساسيّة منه كالاتّحاد والعدل»، مع انتقاده للوجه «الاستعماري والحربي للغرب»، مُتّهماً «دول أوروبا بالتزاحم في سبيل الاستعمار» (ص19)، فكتب سنة 1912 محذّراً الغرب من الشرق لأنّ «نهضة اليابان والصين ويقظة تركيا وفارس بمثابة شعار للآسيويّين» .
عن «جريدة القدس والتعبير عن هويّة متعدّدة الأبعاد»
جمعتِ الجريدة ما بين ولاء مركزي إلى أمّة كبيرة متمثّلة بالأمّة العثمانيّة من جهة، وولاءات جزئيّة من جهة ثانية متمثّلة بالولاء إلى «شعب فلسطيني» أو إلى «قطر فلسطيني»، وكذلك بالولاء إلى العرب أو نادراً إلى أمّة عربيّة، مع ضعف التنبيه إلى مخاطر الحركة الصهيونيّة والاستيطان اليهودي. فانطوت مقالات حنانيا على «مواقف مناهضة للصهيونيّة ومؤيّدة لها في آنٍ واحد»، وموقفه كان أقرب إلى الحياد «حتّى في ما يتعلّق بأخبار مجيئهم وشرائهم أراضي في فلسطين»؛ لا بل نقلتِ الجريدة أخبار هذه الحركة على صعيد العالَم ومنها مؤتمر بال الصهيوني في العدد 256 السنة الثالثة لصدور الجريدة في 9 و22 أغسطس 1911، وجاء فيه: «إنّ هذا المؤتمر افتُتح في 9 أغسطس، وكان المؤتمر الصهيوني العالمي العاشر بحضور 1600 شخص بينهم 120 صحافيّاً، وقد أشار رئيس المنظّمة الصهيونيّة العالميّة آنذاك ديفيد وولفسون في خطابه الافتتاحي إلى تقدُّم الصهيونيّة في العالَم بأسره وإلى توطّدها النهائي، وأنّ أحوال الشعب اليهودي سيّئة في كلّ مكان ما خلا تركيا، فإنّ اليهود فيها يتمتّعون بالمساواة التامّة». ولكنّ بعض كتّاب الجريدة كان يُنبّه في مقالاته أو قصائده بصورة واضحة إلى مخاطر المشروع الصهيوني وعمليّات بيع الأراضي إلى اليهود على مستقبل فلسطين وصبغتها العربيّة، ومن هؤلاء الكتّاب الأديب المعروف إسعاف النشاشيبي .
ثمّة مُفارَقة لافتة هي أنّ حنانيا الدّاعي إلى التحديث في المجتمع العربي وجَّه نقده إلى أحد صاحبَيْ جريدة «المفيد» التي كانت تصدر في بيروت، وهو عبد الغني العريسي الذي كان من أنصار الدعوة للقوميّة العربيّة، والدعوة إلى اللّامركزيّة وإجراء إصلاحات.
وتعطينا الجريدة تصوُّراً عن متصرفيّة القدس أو لواء القدس؛ عن مُدنه وبلديّاته وحياة سكّانه الاقتصاديّة. وتَذكر «أنّ أغلبيّة سكّان هذا اللّواء كانوا من المسلمين، عدد قليل من المسيحيّين يتوزّعون على طوائف الروم الأرثوذكس، وهُم النسبة الأكبر، ثمّ اللّاتين والكاثوليك والأرمن والسريان والأقباط، وفي القدس والخليل بعض اليهود من السفرديم أي اليهود الشرقيّين»؛ وأنّ مشكلاتها قائمة في «تخلُّف بِناها التحتيّة، طرقاتها، عدم نظافتها، انتشار الأوبئة، الافتقار إلى المياه، مع أنّ فلسطين قطر يقصده سنويّاً ألوفٌ مؤلَّفة من الإفرنج الأجانب، وهي مكرَّمة من المسلمين والمسيحيّين والإسرائيليّين، لأنّها تحتوي على تذكارات وآثار عزيزة على كلّ هذه الطوائف الثلات. ونقده لتعيين مأموري البوسطة العثمانيّة (البريد) بأنّهم «أشخاص أميّين»، وفي مشكلة نقص عدد أفراد البوليس وازدحام السجون وسوء أوضاعها الصحيّة، وتراكُم المحاكم في النظر في الدعاوى، وأيضاً مشكلة تلاعُب تجّار المدينة بالموازين، والمتشرّدين المنتشرين في شوارع المدينة، وظاهرة الفقر، والسياسات التي كانت تمارسها الحكومة، والتي تفرض ضرائب باهظة على الفلّاح تحول دون تطوير الزراعة، وإلى الأزمة الاقتصاديّة التي واجهَها لواءُ القدس وكانت أزمة «المتاليك» أي التلاعب بالعملة، ما أَسهم في تضخُّم الأسعار.
من جهةٍ ثانية، هناك ما يُدلِّل على مدينيّة جوانب الحياة الاقتصاديّة، وهو وجود الهيئات الاقتصاديّة العاملة في القدس: البنك التجاري الفلسطيني، وشركة سكك الحديد، وغرفة التجارة، وهيئات مصرفيّة وماليّة مثل البنك الزراعي وبنك فلسطين الألماني، البنك السلطاني العثماني، شركة الأنغلوفلسطين المحدودة في القدس وفي يافا، وتوافُر الحياة التعليميّة والثقافيّة والعلميّة والتعليميّة، ومكانة المدارس الوطنيّة في تطوير التعليم. كما عرضت الجريدة بإسهاب لوقائع الاجتماعات الثقافيّة التي كانت تنظّمها الجمعيّات المتعدّدة والخطابات الأدبيّة والعلميّة التي كانت تُلقى فيها، والتي كانت مظهراً من مظاهر الحياة الثقافيّة، وأنّ «للجمعيّة الروسيّة الفلسطينيّة مئة ومدرستَيْن في فلسطين ترمي إلى نشْرِ المبادئ الروسيّة وتوسيع نفوذ روسية السياسي في فلسطين، وأنّ أولاد العرب في هذه المدارس يتلقّون المبادئ الروسيّة».
زيارة جرجي بك زيدان
عن مظاهر الحياة الثقافيّة أبرزت الجريدة دَور غرف القراءة والمكتبات، وعرّفت القرّاء بوجوه الثقافة العربيّة والعالميّة، ونقلتْ وقائع الاحتفال الثقافي التكريمي الذي نُظّم بمناسبة زيارة الكاتب اللّبناني المُتمصّر وصاحب مجلّة «الهلال» جرجي بك زيدان بصحبة عقيلته لمدينة القدس، واحتفت الجريدة أيضاً بأهل العلم والأدب، ولكنّها حذَّرت في الوقت نفسه من بعض الأمراض التي يُمكن أن تصيبهم، ومنها مرض الغرور.
لقد عرفَ لواء القدس الحياةَ النيابيّة للمرّة الأولى عندما أصدر السلطان العثماني عبد الحميد في ديسمبر 1876 الدستورَ العثماني أو القانون الأساسي الذي نصّ على تشكيل المجلس العمومي من «مجلس المبعوثان ومجلس الأعيان»، وأعارت جريدة القدس اهتماماً كبيراً للصفات التي يجب أن يتحلّى بها المرشَّح لمنصب نائب في مجلس المبعوثان، وكذلك للحملة الانتخابيّة التي دارت لانتخاب مبعوثي اللّواء، فاكتفت بنشر أخبار اثنَيْن من المرشّحين للانتخابات من أصل عشرة هُما نظيف بك الخالدي مهندس شعبة المدينة المنوّرة في خطّ الحجاز، وأسحق ليفي مفتّش الزراعة في ولايتَيْ سوريا وبيروت سابقاً، وشنّت حملةً على مسلكيّات بعض المبعوثين ومواقفهم وعدم فعاليّتهم واستهتارهم بالمسؤوليّة المُلقاة على عاتقهم «كأنّهم لم يُرسلوا الى عاصمة الآستانة إلّا لقضاء الوقت والتسلية والمجالس الفارغة والمباحث التي لا طائل منها». كما تطرَّقت إلى الأنشطة الاجتماعيّة والسياسيّة، إذ كان لجمعيّة الاتّحاد والترقّي فرعٌ ناشط في مدينة القدس، وفي أحد نشاطاته الأولى دعا إلى «دعْم مشروع إنشاء أسطول حربي عثماني»، كما نشرتْ أخبار «المساعدات التي قدَّمتها جمعيّة الهلال الأحمر في مدينة القدس عندما قامت سفنٌ حربيّة إيطاليّة في فبراير 1912 بقصْف سفن حربيّة عثمانيّة وإغراقها في ميناء بيروت، فقرَّرت إدارة هذه الشعبة في اجتماعٍ عقدته يوم الأحد 19 فبراير و2 مارس 1912 أن ترسل إلى بيروت 5000 فرنكٍ لمساعدة عائلات الشهداء والجرحى في حادثة بيروت المشؤومة».
وإلى جانب نشْرها أخبار مناسبات الأعياد لكلّ طائفة من المسلمين والمسيحيّين واليهود الشرقيّين، والمناسبات الوطنيّة، فإنّها احتفت بأخبار الحياة الفنيّة في لواء القدس، وكان فنّ التمثيل من أبرز الفنون المَقدسيّة التي تغطّيها، إلى جانب فنّ التصوير والرسم والموسيقى والغناء، وألعاب السيرك والرياضة، ولاسيّما كرة القدم، وفنّ السينما التي دخلت القدس في مرحلة مبكّرة، مُنتقدةً عدم احترام الجمهور المُتمثّل «بعدم الصمت في أثناء المشاهدة»، في حين كانت الصور المتحرّكة التي ينطوي عليها هذا الفنّ آنذاك تطوف في بعض المسارح والمحلّات، مثل تياترو أنيستي ومحلّ فاينكولد، ونال خليل رعد الذي أُطلق عليه لقب «مصوِّر شمسيّ العائلة الملكيّة الألمانيّة» شهرة واسعة (أقيم في بيروت في العام 2022 معرضٌ تكريمي للمصوِّر رعد 1854 - 1957 ضمَّ 64 صورة من أصل 3000 موجودة في أرشيف مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة)، فضلاً عن عروض الموسيقى والغناء التي كانت تجري في المدينة.
يتميّز الكتاب بدلالاتٍ تتعدّى التركيز على الحداثة والتطوير، لكونه يتضمّن كمّاً هائلاً من المعلومات والأخبار التي قد تُستخْدم لاستيلاد كتبٍ بموضوعاتٍ مختلفة، ولاسيّما في علم الأنتروبولوجيا، إضافة إلى أسلوب د. ماهر الشريف التوثيقيّ/ المُمتع في سياق النصّ وسرْد الأخبار، وكأنّنا على تماسٍّ راهنيّ مطلع كلّ صباح.
* إعلاميّة من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.