معظمنا يمتلك إحساسًا بالواقع، لكن ماذا لو خدعتنا حواسنا؟ هل سأظل أعرف ما هو الحقيقي إذا كنت على سبيل المثال، أعاني من ورم دماغي صغير يجعلني أعتقد أن الأشخاص من حولي هم شياطين، أو أن اليوم الجميل المشمس هو كابوس مظلم؟
فيلم (الجوكر)، «لتود فيليبس»، يتناول هذا النوع من الجنون التفارقي، إنه يؤكد على المشكلة الفلسفية المتعلقة بالحد الفاصل بين الإدراك والواقع، وتلاشي التمييز بين الشعور الداخلي والإحساس الخارجي، حيث يمكنني أن أسقط كياني الداخلي على العالم، مما يغير لونه ونغمته. إذا لم أكن أدرك أنني أفعل ذلك، فسأعيش في متاهة من الجحيم، سجن من إسقاطاتي الخاصة. لا يمكن لأحد الوصول إلى شخص يعاني هذا النوع من الجنون، فلا أحد موجود فعليًا بالنسبة له، مرآته المكسورة لا تعكس شيئًا، يلتهم العالم، وفي الوقت ذاته يتفكك من الداخل.
يقدم «خواكين فينيكس» شخصية «آرثر فليك»، وهو كوميدي فاشل يعاني من اضطراب نفسي يجعله يضحك في لحظات غير مناسبة. تحت ضغط سلسلة من الأحداث المؤلمة، ينزلق «فليك» إلى الجنون ويشرع في موجة من القتل، وفي هذه العملية، يتبنى شخصية (الجوكر) ويصبح رمزًا لثورة ضد الامتياز في مدينة «غوثام»، وبطلًا للثوار الذين يفشلون في إدراك عمق اضطراباته.
يعد تجسيد الجنون أمرًا صعبًا للغاية، لأنه من جهة يجب على الممثل أن يضبط عواطفه بينما يتصرف كما لو كانت غير متوازنة، ومن جهة أخرى، يجب أن تكون مبالغاته قابلة للتصديق، وإلا فإن الفيلم يصبح ميلودراما أو كاريكاتيريا. على سبيل المثال، في واحدة من أكثر المشاهد إيلاما في الفيلم، حين يخنق آرثر والدته بوسادة بينما يعبّر بجملته الحاسمة: «كنت أعتقد أن حياتي كانت مأساة، لكنني الآن أدرك أنها كوميديا». نبرة آرثر محايدة، كما لو أن أفعاله منفصلة تمامًا عن أي عاطفة. المشهد هو وصف بارد للإيماءات دون أي إشارة إلى الشعور، وكأنه الموت بقسماته الباردة شخصيا.
تجعلني براعة أداء فينيكس في تجسيد الجنون، أتذكر شخصيات الأشرار المجانين من العقود الماضية: جاك تورانس (جاك نيكولسون) في The Shining؛ بوبي بيرو (ويلم دافو) في Wild at Heart؛ جون دو (كيفن سبيسي) في Se7en.
فكرة عدم فعالية العلاج النفسي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالموضوع المركزي للجنون في فيلم (الجوكر). يشكو آرثر لطبيبته النفسية: «أنتِ لا تستمعين أبدًا»، «كل ما لدي هو أفكار سلبية». الحوار يُعتبر زائفًا، وبما أن الوصول إلى وعي الآخرين محجوب، يدخل الفرد في عالم من السوليبسية (وحدة الأنا)، حيث يصبح الألم غير قابل للتواصل. قد يكون الشخص الآخر في حالة انهيار، ومع ذلك لا تستطيع أن تراه من خلال قناعه. لذا، فإن الجوكر هو أيضًا تأمل في «الانعدام الوجودي»، وهو نوع من جنون الوجود، كما وصفه العالم النفسي «رونالد لينغ»، بقوله: «إذا كنت أفتقر إلى التعاطف، قد يبدو لي الآخر وكأنه روبوت، أو برنامج حاسوب، أو شبح. قد أشك حتى في وجود الشخص الآخر. قد أبدأ في التشكيك في وجودي الخاص، إذا لم يرني الآخر، فإنني أفشل في رؤية نفسي، وبالتالي أفشل في الوجود». إن عدم الظهور هو مشكلة اجتماعية - سياسية، حيث يشعر العديد من الأشخاص أنهم لا يمتلكون مكانًا، وأنهم بلا قيمة، وأن حياتهم لا تعني شيئًا، كما كتب آرثر في مذكراته.
هذا يقودنا إلى فكرة «لعنة الفقراء» في الفيلم، فالمجتمع الذي يعتبر فيه المال إلهًا يعادل دائمًا الفشل بالإقصاء. هناك طرق عديدة يُقضى بها على الفقراء في مثل هذا المجتمع، وإحدى هذه الطرق هي إنكار الرعاية الصحية. إن وصول آرثر إلى العلاج والأدوية يتعطل مما يفاقم في سلوكه المجنون. يمكننا حتى أن نستنتج أن مشاهد الفئران، التي تظهر عدة مرات في الفيلم، هي رمز للجماهير الكبيرة من الفقراء، التي أطلق عليها «كارل ماركس» لقب «اللومبن بروليتاريا»، أي الطبقة ما دون أو تحت البروليتاريا.
عندما تعامل المجتمعات الأكثر تقدمًا، أفرادها الأكثر ضعفًا على أنهم «فئران»، يمكن القول إن التشاؤم يصبح تفسيرًا صالحًا للحياة، وإن التفاؤل هو الشر، كما عبر عن ذلك «آرثر شوبنهاور».
هناك مبدأ هندي يُعرف بـ tat tvam asi (أنت ذلك)، الذي ينص على أنه ينبغي علينا أن نحاول التعرف على نفس الجوهر في الآخر، لأننا في جوهرنا الآخر. حيث إن الفشل في التعرف على أنفسنا في الآخر يعني أن «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان»، وأن الاستغلال لا ينتهي، وأن حربنا الأهلية مستمرة. إن هذه اللامبالاة تجاه الآخر هي دافع آخر متكرر خلال الفيلم، تقود إلى الدمار الشامل.
كما أن الاحتقار الواضح في مشاهد الفيلم تجاه المساكين ليس مجرد عرض لا مبالاة فاشية، بل دليل على الغطرسة النيو ليبرالية. يكشف مشهد (الجوكر) عندما يرى الأغنياء وهم يستمتعون بمشاهدة فيلم «العصر الحديث» لتشارلي شابلن، وهو فيلم يتناول صعوبات الحياة خلال الكساد العظيم، عن الإحساس السادي بالتفوق لدى الطبقة الغنية، الذين يشاهدون دراما المحرومين من علو مكانتهم.
لنصل إلى مشكلة مركزية في الفكاهة، فنحن مدربون على الضحك فقط عندما يكون ذلك مناسبًا. يقول «مارتن هايدغر» في كتابه الوجود والزمان: «نستمتع ونمرح بالطريقة التي يستمتع بها الآخرون». الجوكر لديه نوعه الخاص من الفكاهة، ويضحك في الأوقات غير المناسبة، مما يثير الضغوط. يمكننا التمييز بين الضحك الزائف والضحك الصادق، أما ضحك الجوكر الفائق الزيف يصبح أصيلًا، لأنه تعبيره الخاص، غير المتأثر بالمطالب الاجتماعية. إن رؤيته للحياة ككوميديا أغمق من التراجيديا، تذكرنا بتأمل الكاتب العبثي «يوجين يونسكو» بشأن يأس الكوميديا، عندما نستمتع بمشاهدة العرض المسرحي «الملك يموت» ليونسكو، نضحك على الجانب التراجيدي من الوجود، وفي الحقيقة نحن نضحك على حياتنا وموتنا.
فالناس أشد حزنًا مما يعلنون، وأكثر حزنًا حتى مما يظنون. يقول فليك بشكل ساخر: «لم أكن سعيدًا أبدًا»، مشيرًا إلى أن لقبه في الطفولة كان «هابي».
أخيرًا، واحدة من الأفكار المركزية في الفيلم، تذكرنا بمسلسل «السيد روبوت» تلك الشخصية الانطوائية التي تشعل شعلة التمرد، يقول بطل الفيلم: «الحقيقة؟ هل أي من هذه الأشياء حقيقي؟ انظر حولك! إنه عالم مبني على الخيال. عواطف اصطناعية على شكل حبوب. حرب نفسية على هيئة إعلانات. مواد كيميائية تؤثر على العقل في هيئة أطعمة. ندوات غسل مخ في هيئة إعلام. فقاعات معزولة متحكم بها عن بعد على شكل شبكات تواصل اجتماعي. هل تريد أن تتكلم عن الواقع؟ نحن لم نعِشْ فيما يشبه الواقع منذ بداية القرن. لقد أطفأنا الواقع وأزلنا بطارياته»!
عندما يصبح آرثر الجوكر، يصبح أسوأ نسخة ممكنة من نفسه؛ لكنه يكسب العالم، أو على الأقل يتم قبول جزء منه، ويتحول إلى رمز للثورة. لكن وبإعادة صياغة مقولة «نيتشه»، فمن يقاتل الوحوش سيصبح بلا شك وحشًا.
فيلم (الجوكر)، «لتود فيليبس»، يتناول هذا النوع من الجنون التفارقي، إنه يؤكد على المشكلة الفلسفية المتعلقة بالحد الفاصل بين الإدراك والواقع، وتلاشي التمييز بين الشعور الداخلي والإحساس الخارجي، حيث يمكنني أن أسقط كياني الداخلي على العالم، مما يغير لونه ونغمته. إذا لم أكن أدرك أنني أفعل ذلك، فسأعيش في متاهة من الجحيم، سجن من إسقاطاتي الخاصة. لا يمكن لأحد الوصول إلى شخص يعاني هذا النوع من الجنون، فلا أحد موجود فعليًا بالنسبة له، مرآته المكسورة لا تعكس شيئًا، يلتهم العالم، وفي الوقت ذاته يتفكك من الداخل.
يقدم «خواكين فينيكس» شخصية «آرثر فليك»، وهو كوميدي فاشل يعاني من اضطراب نفسي يجعله يضحك في لحظات غير مناسبة. تحت ضغط سلسلة من الأحداث المؤلمة، ينزلق «فليك» إلى الجنون ويشرع في موجة من القتل، وفي هذه العملية، يتبنى شخصية (الجوكر) ويصبح رمزًا لثورة ضد الامتياز في مدينة «غوثام»، وبطلًا للثوار الذين يفشلون في إدراك عمق اضطراباته.
يعد تجسيد الجنون أمرًا صعبًا للغاية، لأنه من جهة يجب على الممثل أن يضبط عواطفه بينما يتصرف كما لو كانت غير متوازنة، ومن جهة أخرى، يجب أن تكون مبالغاته قابلة للتصديق، وإلا فإن الفيلم يصبح ميلودراما أو كاريكاتيريا. على سبيل المثال، في واحدة من أكثر المشاهد إيلاما في الفيلم، حين يخنق آرثر والدته بوسادة بينما يعبّر بجملته الحاسمة: «كنت أعتقد أن حياتي كانت مأساة، لكنني الآن أدرك أنها كوميديا». نبرة آرثر محايدة، كما لو أن أفعاله منفصلة تمامًا عن أي عاطفة. المشهد هو وصف بارد للإيماءات دون أي إشارة إلى الشعور، وكأنه الموت بقسماته الباردة شخصيا.
تجعلني براعة أداء فينيكس في تجسيد الجنون، أتذكر شخصيات الأشرار المجانين من العقود الماضية: جاك تورانس (جاك نيكولسون) في The Shining؛ بوبي بيرو (ويلم دافو) في Wild at Heart؛ جون دو (كيفن سبيسي) في Se7en.
فكرة عدم فعالية العلاج النفسي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالموضوع المركزي للجنون في فيلم (الجوكر). يشكو آرثر لطبيبته النفسية: «أنتِ لا تستمعين أبدًا»، «كل ما لدي هو أفكار سلبية». الحوار يُعتبر زائفًا، وبما أن الوصول إلى وعي الآخرين محجوب، يدخل الفرد في عالم من السوليبسية (وحدة الأنا)، حيث يصبح الألم غير قابل للتواصل. قد يكون الشخص الآخر في حالة انهيار، ومع ذلك لا تستطيع أن تراه من خلال قناعه. لذا، فإن الجوكر هو أيضًا تأمل في «الانعدام الوجودي»، وهو نوع من جنون الوجود، كما وصفه العالم النفسي «رونالد لينغ»، بقوله: «إذا كنت أفتقر إلى التعاطف، قد يبدو لي الآخر وكأنه روبوت، أو برنامج حاسوب، أو شبح. قد أشك حتى في وجود الشخص الآخر. قد أبدأ في التشكيك في وجودي الخاص، إذا لم يرني الآخر، فإنني أفشل في رؤية نفسي، وبالتالي أفشل في الوجود». إن عدم الظهور هو مشكلة اجتماعية - سياسية، حيث يشعر العديد من الأشخاص أنهم لا يمتلكون مكانًا، وأنهم بلا قيمة، وأن حياتهم لا تعني شيئًا، كما كتب آرثر في مذكراته.
هذا يقودنا إلى فكرة «لعنة الفقراء» في الفيلم، فالمجتمع الذي يعتبر فيه المال إلهًا يعادل دائمًا الفشل بالإقصاء. هناك طرق عديدة يُقضى بها على الفقراء في مثل هذا المجتمع، وإحدى هذه الطرق هي إنكار الرعاية الصحية. إن وصول آرثر إلى العلاج والأدوية يتعطل مما يفاقم في سلوكه المجنون. يمكننا حتى أن نستنتج أن مشاهد الفئران، التي تظهر عدة مرات في الفيلم، هي رمز للجماهير الكبيرة من الفقراء، التي أطلق عليها «كارل ماركس» لقب «اللومبن بروليتاريا»، أي الطبقة ما دون أو تحت البروليتاريا.
عندما تعامل المجتمعات الأكثر تقدمًا، أفرادها الأكثر ضعفًا على أنهم «فئران»، يمكن القول إن التشاؤم يصبح تفسيرًا صالحًا للحياة، وإن التفاؤل هو الشر، كما عبر عن ذلك «آرثر شوبنهاور».
هناك مبدأ هندي يُعرف بـ tat tvam asi (أنت ذلك)، الذي ينص على أنه ينبغي علينا أن نحاول التعرف على نفس الجوهر في الآخر، لأننا في جوهرنا الآخر. حيث إن الفشل في التعرف على أنفسنا في الآخر يعني أن «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان»، وأن الاستغلال لا ينتهي، وأن حربنا الأهلية مستمرة. إن هذه اللامبالاة تجاه الآخر هي دافع آخر متكرر خلال الفيلم، تقود إلى الدمار الشامل.
كما أن الاحتقار الواضح في مشاهد الفيلم تجاه المساكين ليس مجرد عرض لا مبالاة فاشية، بل دليل على الغطرسة النيو ليبرالية. يكشف مشهد (الجوكر) عندما يرى الأغنياء وهم يستمتعون بمشاهدة فيلم «العصر الحديث» لتشارلي شابلن، وهو فيلم يتناول صعوبات الحياة خلال الكساد العظيم، عن الإحساس السادي بالتفوق لدى الطبقة الغنية، الذين يشاهدون دراما المحرومين من علو مكانتهم.
لنصل إلى مشكلة مركزية في الفكاهة، فنحن مدربون على الضحك فقط عندما يكون ذلك مناسبًا. يقول «مارتن هايدغر» في كتابه الوجود والزمان: «نستمتع ونمرح بالطريقة التي يستمتع بها الآخرون». الجوكر لديه نوعه الخاص من الفكاهة، ويضحك في الأوقات غير المناسبة، مما يثير الضغوط. يمكننا التمييز بين الضحك الزائف والضحك الصادق، أما ضحك الجوكر الفائق الزيف يصبح أصيلًا، لأنه تعبيره الخاص، غير المتأثر بالمطالب الاجتماعية. إن رؤيته للحياة ككوميديا أغمق من التراجيديا، تذكرنا بتأمل الكاتب العبثي «يوجين يونسكو» بشأن يأس الكوميديا، عندما نستمتع بمشاهدة العرض المسرحي «الملك يموت» ليونسكو، نضحك على الجانب التراجيدي من الوجود، وفي الحقيقة نحن نضحك على حياتنا وموتنا.
فالناس أشد حزنًا مما يعلنون، وأكثر حزنًا حتى مما يظنون. يقول فليك بشكل ساخر: «لم أكن سعيدًا أبدًا»، مشيرًا إلى أن لقبه في الطفولة كان «هابي».
أخيرًا، واحدة من الأفكار المركزية في الفيلم، تذكرنا بمسلسل «السيد روبوت» تلك الشخصية الانطوائية التي تشعل شعلة التمرد، يقول بطل الفيلم: «الحقيقة؟ هل أي من هذه الأشياء حقيقي؟ انظر حولك! إنه عالم مبني على الخيال. عواطف اصطناعية على شكل حبوب. حرب نفسية على هيئة إعلانات. مواد كيميائية تؤثر على العقل في هيئة أطعمة. ندوات غسل مخ في هيئة إعلام. فقاعات معزولة متحكم بها عن بعد على شكل شبكات تواصل اجتماعي. هل تريد أن تتكلم عن الواقع؟ نحن لم نعِشْ فيما يشبه الواقع منذ بداية القرن. لقد أطفأنا الواقع وأزلنا بطارياته»!
عندما يصبح آرثر الجوكر، يصبح أسوأ نسخة ممكنة من نفسه؛ لكنه يكسب العالم، أو على الأقل يتم قبول جزء منه، ويتحول إلى رمز للثورة. لكن وبإعادة صياغة مقولة «نيتشه»، فمن يقاتل الوحوش سيصبح بلا شك وحشًا.