مجاهد عبدالمتعالي

أطروحات رضوان السيد في مجال الدولة الحديثة تحمل إطاراً معرفياً نقياً من الأيديولوجيا الشمولية، متجاوزاً ركاماً من أطروحات اليسار الأصولي (الماركسي) واليمين الأصولي (الديني). رضوان السيد خلاصة تجربة فكرية ناضجة تحتاجها لحظتنا العربية الحالية وما تعانيه الدولة العربية الوطنية من ضغوط (عولمية). أما على مستوى التنظير لحياة الأفراد فإني أرشح للمهتمين (فتحي التريكي)، ولا أقصد بهذين الاسمين (رضوان السيد في إطار الدولة، وفتحي التريكي في إطار الأفراد)، أن نضعهما مرجعين بالمعنى الأصولي (عمامة فقيه تبحث عن أتباع ومقلدين)، بقدر ما نعتبرهما مجرد إشارات توضيحية لمسار الإنسان الفكري باتجاه أفقه المتغير، خصوصاً إذا عرف القارئ أن كاتب المقال مثلاً عاش طفولته في إطار تقاليد مدرسية عن (النواقض العشرة للدين)، ليتفاجأ بأشواكها عندما كبر تريد خدش (الدولة الحديثة)، فانطلق إلى الشاطبي ومقاصده ليفهم أن مكتسبات (الدولة الحديثة) أوسع من عقل (سلفي/خارج التاريخ) يستنكر سابقاً تعليم البنات ثم لاحقاً قيادتهن للسيارة.

تستمر معك ارتحالات التطور في (الوعي الفردي) ما دام الشغف الفكري والنقد الذاتي يغذيهما القراءة في الكتب المختلفة بأنواعها، والسفر إلى غير عادتك ومألوفك، وما عدا ذلك فموت نراه في بعض الأعين الشاخصة للوراء/للخلف نحو جوائزها ودروعها التذكارية القديمة لأنها كانت يوماً (سيدة المشهد)، ليست معذورة... إنها لم تتجاوز العقد السادس من عمرها للأسف؟! استنزفها (تسويق الذات) اللائق بديماغوجيي خريف العمر من كل الأطياف، على حساب (تجويد الذات) اللائق بفرسان فصول العمر المتدفقين بالإبداع والعطاء وقد تجاوزوا الثمانين.

وأخيراً كلمة ابن لوالده بعد عقدين من وفاة الأب:

كنت يا (براهي بر محم/إبراهيم بن محمد) والداً قاسياً صارماً تحترم الحياة المنضبطة بلون واحد إلى حد الجمود والتحجر، لقد كنت يتيماً أعزه الله بدولة قبلته جندياً زمن الملك سعود، ثم ضابطاً في قواتها المسلحة ومتقاعداً زمن الملك فهد (1989)، فاحترمت تشريعات الدين وأنظمة الدولة كأنما هي أوامر عسكرية بلون واحد، فكبر ابنك ودرس في كلية الشريعة ليكتشف أن أوامر الشريعة ليست إلا مذاهب وآراء فقهية باستثناء ثوابت الدين، والقوانين المدنية متغيرات تطويرية باستثناء ثوابت الدولة.

لقد كنت قاسياً من دون أن تصرخ أو ترفع يدك على أحد من أهل بيتك، فدهاؤك في الضبط والربط تجاوز أساليب الحمقى في الضرب والصراخ، ولهذا كان خوفنا منك أشد، لم تكن سادياً بل تشربت العسكرية مع قسوة اليتم منذ نعومة أظفارك ونقلتها إلى منزلك. هل تذكر رعبنا في التخلف عن سفرة الوجبات الثلاث، وفي إجازتنا الدراسية تطفئ عداد الكهرباء تمام العاشرة كي ننام بقوة (ظلام الليل)، هل تذكر كيف كنت بصرامة شديدة تمنع إحضار عمَّال للقيام بترميمات المنزل العابرة (تغيير لمبات قديمة، إنشاء فيش كهرباء، تغيير أدوات سباكة قديمة، تكسير جدار لعمل نافذة.... الخ). هل تذكر خط المياه من بئر المزرعة إلى الشارع العام (250م)، قمنا بتمديدها وقد تسلخت أيادينا وأكتافنا وكافأتنا بوجبة حنيذ واحدة، حتى تعودنا أن نقوم بتغيير الزيت وكثير من قطع سياراتنا دون الحاجة لورشة وميكانيكي. أعترف لك بأنك كنت كريماً في منزلك فمستودع الأغذية في المنزل كأنما هو (دكان) فلا تعترف بالمفرق بل كل شيء عندك بالجملة حتى الصابون والشامبو.

كنت أباً بحالتين، فيأتي أبناؤه من تبوك لزيارة أقاربهم في الجنوب عام 1980 على الدرجة الأولى في الطائرة، وبالمقابل تعطل/تخرب مكيف سيارتك (عمداً) لأنك عشت كما تقول على ظهور الجمال! لنعيش معك مسحوقين كمجموعة عمَّال في أي حاجة تعترضك وأحياناً تقترحها دون ضرورة سوى عداوتك الشديدة (لوقت الفراغ)، جعلتنا فلاحين وسباكين ونجارين ومكيانيكيين وعمال بناء، لا شيء من هذه المهن لم تستخدمنا فيها بالمعنى الحرفي للكلمة، لقد عشنا معك حياة مزدوجة ظاهرها برجوازي وباطنها بروليتاري، وعندما آنست رشدنا عرفنا أنك سليل إحدى أكبر الأسر الإقطاعية في المنطقة، وأنك أدركت منذ ميلادك العبيد والجواري عند جدك وأعمامك قبل أن تودع حياة الريف إلى حياة العسكرية حتى وفاتك بمستشفى القوات المسلحة 2003.

كنت مشغولاً بالوصايا القاسية إلى آخر رمق: (اخبروا الطبيب بعدم حاجتي لوحدة العناية المركزة لاعتراض جلطة أو تنشيط عضلة القلب، لا أريد المكوث تحت الأجهزة، ليس من اللائق بشيخ كبير مثلي أن يتعزر بهذه الأجهزة التي يستحقها الشباب دفاعاً بالعلم عن حياتهم، وإذا جاء الحق لأخذ وداعته فكونوا كما ربيتكم رجالاً صابرين يكرهون الضعف شكلاً وروحاً). لقد خرجنا بعد عصر ذلك اليوم إلى الحلاق مباشرة فلا يظهر علينا في عزائك ما يسعد الشامت ويكدر المحب، لقد فعلناها بكل قسوة ربيتنا عليها، لقد نزلت قبرك واستقبلت جثمانك بيدي وساعدني في ذلك شبيهك في اليتم فقط (أحمد/أبوقيس) ثم وضعت عليك اللحود والخلب ولم تقطر لي دمعة واحدة، لقد راوغتك، وراوغت نفسي فبكيتك قبل أن تموت.

لقد أنقذتني (القراءة والأسفار) منك ومن وصاياك التي لم تعد ذات قيمة الآن، فما قيمة أن يكون خطي جميلاً وأنا أكتب على برنامج وورد، حتى سيارتي تحتاج كمبيوتر يفصح عن مشاكلها. لو خرجت من قبرك يا أبي ستكتشف أنك لا تعرف شيئا من زمننا هذا، حرمتنا أن نكون من مشجعي كرة القدم، سأخبرك بسر: ما زلت أذكر (صالح النعيمة، ماجد عبدالله، أمين دابو)، كنت تردد علينا: (كرة القدم فن لا منطقي) ولم تعلم أني كبرت وفككت عبارتك فاكتشفت سر روعتها عند جماهيرها، إن سرها يكمن في (لا منطقيتها) ففريق لا يملك لاعباً بحجم كريستيانو قد يهزم فريقاً بطله كريستيانو، إنها لعبة لسنا من جماهيرها بسببك فاستفدنا وقت المباراة لقضاء حوائج المنزل (والشوارع فاضية). أراك تبتسم يا أبي لهذه الفضفضة، لكني أذكرك بأنك كنت تكره مكوثي الطويل في القراءة، تقول: رفقة الكتب مهمة ولكن مرافقة الرجال أهم، القليل من كتب التاريخ والدين تكفيك، كنت تريدني مثل (ديماغوجيي الثقافة/الحكواتية) يستثمرون جولاتهم القرائية لصناعة وجود جماهيري أفقي على حساب تجويد عقولهم باتجاه النمو الرأسي، ولهذا لم يتغيروا ولن يتغيروا جموداً وتحجراً، ما لم يسيروا في معراج (الابستمولوجيا مثلاً) ليفهموا (كيف يعرفون)، وهذا ما لا يستوعبونه ولا يستوعبه عقلك يا أبي.

أخيراً:

أحفادك لا يمثلونك ولا يمثلون تقاليدك البالية أبداً، فحتى حفيدك (إبراهيم) لديه حساب بنكي دون أن يرى مبنى البنك، أقول هذا لأني أتذكر مقاومتك السخيفة لظهور (بطاقة الصراف) ومقص والدتي بيدك تقص به ما يصل على بريدك من بطاقات بنكية.

إني الآن أبتسم منتشياً بقانون التغير الذي جعل حتى بعض الفتاوى القديمة تصبح (خطأ تاريخياً في زمننا هذا)، ولهذا يسعك يا أبي ما وسع الأموات جميعاً قبلك، رحمك الله ورحمهم.