تعيش إسبانيا أزمةً وجوديّةً حادّة، نتيجة خسارة الفيليبّين وكوبا، آخر مُستعمراتها في آسيا وأميركا اللّاتينيّة. تلي كارثتَها هذه، كارثةُ أوروبا، عندما تحين ساعة تصدُّع هَيْمَنَتِها العالَميّة. تَحدث ثورة روسيا، تُصبح الجموع وحيدة، ويُبعَث العرب.
أنخيل غانيفيت المولود في العام 1862، والذي تنبّأ قبل انتحاره في العام 1898 بسنواتٍ عدّة، بما سيَقَع من أحداثٍ تاريخيّة مُهمّة في القرن العشرين، أشارَ في تنبّؤئهِ إلى أنّ الجشعَ المادّي والرغبةَ الجامحة في السيطرة على العالَم، وثرواته، سيقودان إلى تجابُهِ قوَّتَيْن عظيمتَيْن تدمّران بعضهما بعضاً أو تعيشان بسلامٍ بدافعٍ من الخَوف ممّا سيؤول إليه مصير العالَم.
أنخيل غانيفيت ليس قارىءَ غَيب. إنّه الروائي الغرناطي المُتميّز بفرادة أسلوبه الخاصّ، وبإدراج البحث العلميّ في تفاصيل رواياته. هو الشاعر باللّغتَيْن الإسبانيّة والفرنسيّة، الفيلسوف والمفكّر العالمَي، العالِم والمُصلِح الاجتماعي والصحافي المُلقَّب بـ "نبيّ التاريخ" الذي ما زالت تنبّؤاته ببعض الأفكار الإنسانيّة، فضلاً عن مؤلَّفاتِه التسعة، تشغل الباحثين، ومن بينهم ميغيل أولميدو وخوزيه مارافال.
وُلد غانيفيث في العام 1862 في غرناطة الموريسكيّة في عائلةٍ من البورجوازيّة المتوسّطة. كان أبوه صاحبَ مطحنة انتحرَ فيما كان هو لا يزال طفلاً لمّا يتجاوز التّاسعة من عمره. ربَّته أمُّه، واهتمَّت بتعليمه حتّى تخرَّج في الحقوق وصار مُحامياً، ثمَّ وزيراً للثقافة، وديبلوماسيّاً في بلجيكا وفنلندا تنقَّل بين أنفير، وهلسنكي، وريغا.
في ريغا، وَضَعَ غانيفيث حدّاً لحياته ورمى بنفسه في نهر الدوينا في 29 نوفمبر 1989، عام الكارثة الإسبانيّة، يائساً ممّا آلَت إليه الأحوال في وطنه، والذي لم يَستطع أن يفعل له شيئاً، على الرّغم من تحذيره من وقوع الكارثة ومُحاولته إصلاح حياة الوطن الروحيّة، وكان الرجل يائساً من مُجتمع زمنِهِ الحديث، المُندفع بحماسة وراء التقدُّم التقني والتصنيع والربح المادّي، على حساب إنسانيّة الإنسان. ففي هذا العالَم المادّي، يَشعر الإنسان بالوحدة والغربة و"يشعر فيه واحدُنا أنّه عددٌ زائد" كما كَتَبَ الروائي الإسباني فرنسيسكو ليديسما (1927 - 2015).
كان غانيفيث رائداً لجيل أدباء العام 1898، والذي كان من أبرز وجوهه أونامونو، وأنطونيو ماتشادو، ورامون مينيديس بيدال الذي كان واقعُ الوطن المهزوم ومصيرُهُ ومُستقبلُهُ، الموضوعَ الوحيد في مؤلّفاته، بعدما خسرت إسبانيا التي أنهكتها الحروب، الفيليبّين وكوبا آخر مُستعمراتها في ما وراء البحار.
تأثّر بفكره الفيلسوفُ أورتيغا أي غاسيت (1883 - 1955)، وتأثّر برؤيته حول غرناطة النصرانيّة - المُسلمة شاعرُ الإنسانيّة والحريّة الخالد فيديريكو غارسيا لوركا (1898 - 1936)، وقَرأه كما أشار أولميدو، كافكا، والكاتبُ الأميركي الإفريقي أليكس هايلي، صاحب رواية "جذور" الشهيرة.
من الواضح بعد هذا التعريف، أنّنا لا نستطيع أن نختصرَ الإرثَ الأدبي الإنساني المُهمّ لغانيفيت في مقالةٍ محدودة الكلمات، وأنّنا مضطرّون لقصْرِ الكتابة على ثلاثة موضوعاتٍ تهمُّ القارئَ العربي الرّاغِب في الانفتاحِ على عالَمِه، ومن أبرزها ما يتعلّق بغرناطة النصرانيّة وتاريخها العربي، وتأثيرها في حياته وإنتاجه، فضلاً عن حمله همومَ الوطن الجريح السائر إلى الكارثة ومَنهجه لإصلاح الحياة الروحيّة للمُجتمع الإسباني المُنهك حتّى ينقذ وطنه من الضياع، ناهيك بمَوقفه من أيديولوجيا عصره الماديّة والنقيضة للروحانيّة الغرناطيّة.
يوضّح أولميدو أنّ غرناطة تُمثِّل جَوهراً أساسيّاً في حياة غانيفيت، إن لجهة تكوين شخصيّته كفردٍ، أو لجهة آثاره الأدبيّة والإبداعيّة بوجهٍ عامّ. وقد عاش طفولته في منطقةٍ يتداخلُ فيها الريفُ بالمدينة، وتتكامل فيها الطبيعةُ والآلةُ لإنتاج الخبز، أهمّ غذاء ضروري للإنسان.
تملّى غانيفيت بالعُمق الإنساني لهذه البيئة التي حملها في أعماقه، والتي أَوحت له ليَصيرَ كاتباً بحَجْم الوطن، ويضمّ كلّ مكوّنات الوسط الحياتي الذي "تربَّينا وانصهرْنا فيه صغاراً: أهلنا، بيتنا، ريفنا ومُعايشاتنا".
قضى غانيفيت طفولتَه في غرناطة الموريسكيّة الحاضنة لذاكرة الإسلام وتراثه المعماري الفريد، المُتمثّل بقصر الحمراء المُدهش، والذي أَبدعه المخيال الأندلسيّ، فاعتبره في كتاباته رمزاً لإيمانٍ دمغَ المدينةَ بطابعهِ الخاصّ الذي لا يُمكن أن يكون غير عربيّ على الإطلاق.
في غرناطة الموريسكيّة، مسقط رأسه، وُلِد ونَضِجَ تصوُّرُهُ للعالَم الذي محوره الإنسان. والمُدن هي الوسط الطبيعيّ لحياة البشر، وهي روح مناطقيّة نسجت وجودَها حقيقتُها الماديّة والمعنويّة ونطاقها التاريخي؛ وغرناطة هي تاريخها العربي ومُختصر حضارتها الزّاهية.
يدعو غانيفيت مواطنيه للحفاظ على روح غرناطة وللعمل الدؤوب، انطلاقاً من القوّة الحضاريّة لتاريخهم، على تجديد مدينتهم، لتعود مركزاً فكريّاً مُهمّاً في أوروبا كما كانت في زمنها الأندلسيّ.
دعوةُ الغرناطيّين إلى التجديد، تنسحبُ أيضاً على خريطة إسبانيا المُنهَكة، جرّاء حروبٍ خَسرت فيها مُستعمراتِها الواحدة بعد الأخرى، وسطَ عجْزِ المسؤولين عن التصدّي لثقلِ واقع بلادهم المُنهكة الرّاكدة، والتي كانت تعيش، كما يوضح أنطونيو إيسنا، مرحلةً دقيقةً وحاسمةً من تاريخها، يمكن معها أن تنهض من كبوتها وتُجدِّد إمكانيّات وجودها القويّ لتَستعيدَ ذاتَها أو أن تنهارَ بطريقةٍ لا يُمكن تجاوزُ سلبيّاتها.
الكَينونة المثاليّة للعِرق الإسبانيّ
يختصرُ مضمونُ مؤلّفاته، مثل "مجموعة أفكار إسبانيّة" وروايتَيْ "غزو مَملكة مايا" و"أعمال بيو تيد الذي لا يصيب" و"الرسائل الفنلنديّة"، تأمّلَهُ المستمرّ لواقع الوطن وقلقه على مستقبله ومصيره. وفي "غرناطة الجميلة" يذكر غانيفيت أنّه يؤلِّف كتاباً عن الكينونة المثاليّة للعِرق الإسباني، وأنّ هدفَه إصلاح الحياة الروحيّة لوطنه وإصلاح شعبه، كما يفسِّر مارافال.
في "مجموعة أفكارٍ إسبانيّة"، يُحدِّد غانيفيت تصوّرَه لإصلاحٍ إيجابيٍّ يُغيِّر بالضرورة الحياةَ نحو الأفضل من خلال أمرَيْن:
أ- تجديد اللّغة، لأنّ الكلمات الإسبانيّة لم تَعُد تعني شيئاً له أهميّته.. ولم تَعُد الإسبانيّةُ لغةَ تواصُلٍ إنسانيّ، تؤثِّر في حياة المُجتمع والناس، لكثرة استعمالها فارغةً من مضمونها، بخاصّة من طَرَفِ الذين يعتمدونها خدمةً لمصالحهم.
تأثَّر أورتيغا بهذه الفكرة وكَتب: "تَعِسٌ هو العِرق الذي لا يتوقّف في مُفترق الطريق، قَبل مُتابعة مسيرته، ولا يَشعر بالضرورة العظيمة للفتِ الانتباه إلى أهدافه وتوضيح رسالته الإنسانيّة في التاريخ".
ب- وضْع مناهج علميّة من شأنها تربية الأجيال الصاعدة على حُبّ المعرفة، فالمراكز التعليميّة الإسبانيّة سلبيّة إجمالاً، "ولو أُلغيَ نصفها" لَما خسرنا شيئاً؛ يَدرس فيها الطالبُ ليتخرَّجَ ويحصلَ على عملٍ بعيداً من حبّ المعرفة، وهي القوّة الأولى لتطوُّر الشخصيّة الإنسانيّة.
يوضِّح أولميدو في هذا المجال، أنّ إصلاحَ الإنسان كان بالنسبة إلى غانيفيت، أهمّ من نماذج الإصلاح السياسي والإداري والأكاديمي والقانوني السيّئة التطبيق التي طَرحها بعضُ السياسيّين.
وفي موضعٍ آخر يقول إنّ إصلاح الإنسان من خلال تجدُّدهِ الفكريّ يَكسب وعياً وجوديّاً ومعرفةً حياتيّة، ما يُمكِّنه من التأثير الإيجابي في مُحيطه، في مُجتمعه وأمّته، وتُصبح مهمّة إنقاذ الوطن من الانهيار مهمّةً قوميّةً من مسؤوليّة الجميع.
يظلّ غانيفيت حاملاً لهموم وطنٍ مُمَزَّق، مُهدَّد بكارثةِ الانهيار، ويُحاوِل إنقاذه وحيداً، تصطدم أمانيه يوميّاً بالواقع المرير، يُجسِّد هاجساً في مؤلّفاته اللّاحقة التي تعتني بموضوعاتٍ جديدة ترتبط بقضايا عصرٍ رَفَضَ هو بالمطلق حضارته الماديّة.
المُهمّ، إنَّ قول غانيفيت في "مجموعة أفكار إسبانيّة" يُشجِّع على الثقة بالمُستقبل الروحي لإسبانيا، بخاصّة إذا ما قرأنا روايته الخياليّة الثانية "أعمال بيو تيد"، التي جَعَلَ من شخصيّتها الرئيسة شخصيّةً رمزيّة، عالِمةً، وتقع عليها مهمّة الإصلاح: "علينا أن نعمل حتّى تنهض إسبانيا"، و"إذا كانت إسبانيا في وضعٍ مُذِلّ فليس هناك من سببٍ واحدٍ يَمنعها من أن تكون عظيمةً كالأُمم الأخرى".
لم يكُن غانيفيت غريباً عن قضايا وطنه وعصره. سافرَ كثيراً في أوروبا والعالَم؛ وكان شاهداً على المُجتمع الصناعيّ لبلجيكا، النقيض لروحانيّة عالَمِه الغرناطيّ المُتمثّلة بقصر الحمراء، فأدانَ بشدّة سلبيّات الحضارة الماديّة في روايته الأولى "غزو مَملكة مايا"، تلك الرواية التحفة التي رَفعَت اسمه عالياً في بانوراما الأدب الإسباني والأوروبي، وهو يَتموْضَع فيها ضدّ أيديولوجيا عصر أَفرغت الحياة من القيَم الإنسانيّة؛ فقد أطلَّ فيها على تاريخ أوروبا، منذ زوال الإقطاعيّة ونشوء الدول الأوروبيّة في القرن 13 ولغاية الجموح القومي والتمدُّد الصناعيّ للقرن 19، ساخراً من المُجتمع الأوروبي، المُندفع بحماسة وراء التقدُّم التقني والتصنيع.
رَفَضَ غانيفيت إيديولوجيا عصره الماديّة بالمُطلق، وقاوَمَ انتقالَ عدوى ثقافة مُجتمع صناعي خالٍ من الأهداف الإنسانيّة. فإسبانيا بنظرهِ يجب أن تبقى نقيّة، حرّة، ومُخلِصة لذاتها، والتقدُّم المادّي لا يفيد إلّا لتغطية المظاهر الكاذبة ولخداع الناس. يكتب "خافيير هيريرو" شارِحاً غانيفيت هذا، المُمتلىء بروحانيّة غرناطة: "من المادّة تولَد الرغبة اللّامتناهية في المجد والطموح إلى تكديس الثروات بكلّ وسيلة على حساب الأفراد والجماعات والشعوب، ومن المادّة يولَد حبُّ السيطرة على البشريّة والكراهيّة وتسميم الفكر".
كان غانيفيت أيضاً أوّل إسباني تنبّأ بوقوع كارثة العام 1898، فدعا مواطنيه إلى إنقاذ الوطن من خلال تجديد فكرهم، وإلى الاتّفاق والتضامُن في ما بينهم، واحترام تعدُّد المواقف تجنّباً لتعميق الانقسام بينهم في أجواءٍ تَفتقر إلى النضج الثقافي، غير أنّه فَشل في تحقيق هدفه.
يكتب غانيفيت، مُتنبِّئاً بصدامٍ عنيفٍ بين قوّتَيْن عظمَيَيْن: "تقتضي الحضارةُ الماديّة بالضرورة إطفاءَ الكراهيّة بين البشر التي توسِّع مساحات القتال وتَجمَع البشر في كتلتَيْن كبيرتَيْن عدوّتَيْن بسبب الخوف الدائم المُتبادَل بينهما، فتُدمِّر الواحدةُ الأخرى تدميراً نهائيّاً، أو، على العكس، تُقرّران العَيش بسلام". كان غانيفيت إذاً يائساً ومُتشائماً من المصير الأليم والجارح الذي ستَؤولُ إليه الإنسانيّة، فرمى نفسه في نهر الدونيا في تشرين الثاني/ نوفمبر 1898، وتحقَّقت نبوءته في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فهل تتحقَّق النبوءةُ الثانية التي أشارَ إليها، ويُبعث العرب من خمودهم وركودهم الحضاريّ المُخيف؟!
*أكاديميّة وروائيّة من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق
أنخيل غانيفيت المولود في العام 1862، والذي تنبّأ قبل انتحاره في العام 1898 بسنواتٍ عدّة، بما سيَقَع من أحداثٍ تاريخيّة مُهمّة في القرن العشرين، أشارَ في تنبّؤئهِ إلى أنّ الجشعَ المادّي والرغبةَ الجامحة في السيطرة على العالَم، وثرواته، سيقودان إلى تجابُهِ قوَّتَيْن عظيمتَيْن تدمّران بعضهما بعضاً أو تعيشان بسلامٍ بدافعٍ من الخَوف ممّا سيؤول إليه مصير العالَم.
أنخيل غانيفيت ليس قارىءَ غَيب. إنّه الروائي الغرناطي المُتميّز بفرادة أسلوبه الخاصّ، وبإدراج البحث العلميّ في تفاصيل رواياته. هو الشاعر باللّغتَيْن الإسبانيّة والفرنسيّة، الفيلسوف والمفكّر العالمَي، العالِم والمُصلِح الاجتماعي والصحافي المُلقَّب بـ "نبيّ التاريخ" الذي ما زالت تنبّؤاته ببعض الأفكار الإنسانيّة، فضلاً عن مؤلَّفاتِه التسعة، تشغل الباحثين، ومن بينهم ميغيل أولميدو وخوزيه مارافال.
وُلد غانيفيث في العام 1862 في غرناطة الموريسكيّة في عائلةٍ من البورجوازيّة المتوسّطة. كان أبوه صاحبَ مطحنة انتحرَ فيما كان هو لا يزال طفلاً لمّا يتجاوز التّاسعة من عمره. ربَّته أمُّه، واهتمَّت بتعليمه حتّى تخرَّج في الحقوق وصار مُحامياً، ثمَّ وزيراً للثقافة، وديبلوماسيّاً في بلجيكا وفنلندا تنقَّل بين أنفير، وهلسنكي، وريغا.
في ريغا، وَضَعَ غانيفيث حدّاً لحياته ورمى بنفسه في نهر الدوينا في 29 نوفمبر 1989، عام الكارثة الإسبانيّة، يائساً ممّا آلَت إليه الأحوال في وطنه، والذي لم يَستطع أن يفعل له شيئاً، على الرّغم من تحذيره من وقوع الكارثة ومُحاولته إصلاح حياة الوطن الروحيّة، وكان الرجل يائساً من مُجتمع زمنِهِ الحديث، المُندفع بحماسة وراء التقدُّم التقني والتصنيع والربح المادّي، على حساب إنسانيّة الإنسان. ففي هذا العالَم المادّي، يَشعر الإنسان بالوحدة والغربة و"يشعر فيه واحدُنا أنّه عددٌ زائد" كما كَتَبَ الروائي الإسباني فرنسيسكو ليديسما (1927 - 2015).
كان غانيفيث رائداً لجيل أدباء العام 1898، والذي كان من أبرز وجوهه أونامونو، وأنطونيو ماتشادو، ورامون مينيديس بيدال الذي كان واقعُ الوطن المهزوم ومصيرُهُ ومُستقبلُهُ، الموضوعَ الوحيد في مؤلّفاته، بعدما خسرت إسبانيا التي أنهكتها الحروب، الفيليبّين وكوبا آخر مُستعمراتها في ما وراء البحار.
تأثّر بفكره الفيلسوفُ أورتيغا أي غاسيت (1883 - 1955)، وتأثّر برؤيته حول غرناطة النصرانيّة - المُسلمة شاعرُ الإنسانيّة والحريّة الخالد فيديريكو غارسيا لوركا (1898 - 1936)، وقَرأه كما أشار أولميدو، كافكا، والكاتبُ الأميركي الإفريقي أليكس هايلي، صاحب رواية "جذور" الشهيرة.
من الواضح بعد هذا التعريف، أنّنا لا نستطيع أن نختصرَ الإرثَ الأدبي الإنساني المُهمّ لغانيفيت في مقالةٍ محدودة الكلمات، وأنّنا مضطرّون لقصْرِ الكتابة على ثلاثة موضوعاتٍ تهمُّ القارئَ العربي الرّاغِب في الانفتاحِ على عالَمِه، ومن أبرزها ما يتعلّق بغرناطة النصرانيّة وتاريخها العربي، وتأثيرها في حياته وإنتاجه، فضلاً عن حمله همومَ الوطن الجريح السائر إلى الكارثة ومَنهجه لإصلاح الحياة الروحيّة للمُجتمع الإسباني المُنهك حتّى ينقذ وطنه من الضياع، ناهيك بمَوقفه من أيديولوجيا عصره الماديّة والنقيضة للروحانيّة الغرناطيّة.
يوضّح أولميدو أنّ غرناطة تُمثِّل جَوهراً أساسيّاً في حياة غانيفيت، إن لجهة تكوين شخصيّته كفردٍ، أو لجهة آثاره الأدبيّة والإبداعيّة بوجهٍ عامّ. وقد عاش طفولته في منطقةٍ يتداخلُ فيها الريفُ بالمدينة، وتتكامل فيها الطبيعةُ والآلةُ لإنتاج الخبز، أهمّ غذاء ضروري للإنسان.
تملّى غانيفيت بالعُمق الإنساني لهذه البيئة التي حملها في أعماقه، والتي أَوحت له ليَصيرَ كاتباً بحَجْم الوطن، ويضمّ كلّ مكوّنات الوسط الحياتي الذي "تربَّينا وانصهرْنا فيه صغاراً: أهلنا، بيتنا، ريفنا ومُعايشاتنا".
قضى غانيفيت طفولتَه في غرناطة الموريسكيّة الحاضنة لذاكرة الإسلام وتراثه المعماري الفريد، المُتمثّل بقصر الحمراء المُدهش، والذي أَبدعه المخيال الأندلسيّ، فاعتبره في كتاباته رمزاً لإيمانٍ دمغَ المدينةَ بطابعهِ الخاصّ الذي لا يُمكن أن يكون غير عربيّ على الإطلاق.
في غرناطة الموريسكيّة، مسقط رأسه، وُلِد ونَضِجَ تصوُّرُهُ للعالَم الذي محوره الإنسان. والمُدن هي الوسط الطبيعيّ لحياة البشر، وهي روح مناطقيّة نسجت وجودَها حقيقتُها الماديّة والمعنويّة ونطاقها التاريخي؛ وغرناطة هي تاريخها العربي ومُختصر حضارتها الزّاهية.
يدعو غانيفيت مواطنيه للحفاظ على روح غرناطة وللعمل الدؤوب، انطلاقاً من القوّة الحضاريّة لتاريخهم، على تجديد مدينتهم، لتعود مركزاً فكريّاً مُهمّاً في أوروبا كما كانت في زمنها الأندلسيّ.
دعوةُ الغرناطيّين إلى التجديد، تنسحبُ أيضاً على خريطة إسبانيا المُنهَكة، جرّاء حروبٍ خَسرت فيها مُستعمراتِها الواحدة بعد الأخرى، وسطَ عجْزِ المسؤولين عن التصدّي لثقلِ واقع بلادهم المُنهكة الرّاكدة، والتي كانت تعيش، كما يوضح أنطونيو إيسنا، مرحلةً دقيقةً وحاسمةً من تاريخها، يمكن معها أن تنهض من كبوتها وتُجدِّد إمكانيّات وجودها القويّ لتَستعيدَ ذاتَها أو أن تنهارَ بطريقةٍ لا يُمكن تجاوزُ سلبيّاتها.
الكَينونة المثاليّة للعِرق الإسبانيّ
يختصرُ مضمونُ مؤلّفاته، مثل "مجموعة أفكار إسبانيّة" وروايتَيْ "غزو مَملكة مايا" و"أعمال بيو تيد الذي لا يصيب" و"الرسائل الفنلنديّة"، تأمّلَهُ المستمرّ لواقع الوطن وقلقه على مستقبله ومصيره. وفي "غرناطة الجميلة" يذكر غانيفيت أنّه يؤلِّف كتاباً عن الكينونة المثاليّة للعِرق الإسباني، وأنّ هدفَه إصلاح الحياة الروحيّة لوطنه وإصلاح شعبه، كما يفسِّر مارافال.
في "مجموعة أفكارٍ إسبانيّة"، يُحدِّد غانيفيت تصوّرَه لإصلاحٍ إيجابيٍّ يُغيِّر بالضرورة الحياةَ نحو الأفضل من خلال أمرَيْن:
أ- تجديد اللّغة، لأنّ الكلمات الإسبانيّة لم تَعُد تعني شيئاً له أهميّته.. ولم تَعُد الإسبانيّةُ لغةَ تواصُلٍ إنسانيّ، تؤثِّر في حياة المُجتمع والناس، لكثرة استعمالها فارغةً من مضمونها، بخاصّة من طَرَفِ الذين يعتمدونها خدمةً لمصالحهم.
تأثَّر أورتيغا بهذه الفكرة وكَتب: "تَعِسٌ هو العِرق الذي لا يتوقّف في مُفترق الطريق، قَبل مُتابعة مسيرته، ولا يَشعر بالضرورة العظيمة للفتِ الانتباه إلى أهدافه وتوضيح رسالته الإنسانيّة في التاريخ".
ب- وضْع مناهج علميّة من شأنها تربية الأجيال الصاعدة على حُبّ المعرفة، فالمراكز التعليميّة الإسبانيّة سلبيّة إجمالاً، "ولو أُلغيَ نصفها" لَما خسرنا شيئاً؛ يَدرس فيها الطالبُ ليتخرَّجَ ويحصلَ على عملٍ بعيداً من حبّ المعرفة، وهي القوّة الأولى لتطوُّر الشخصيّة الإنسانيّة.
يوضِّح أولميدو في هذا المجال، أنّ إصلاحَ الإنسان كان بالنسبة إلى غانيفيت، أهمّ من نماذج الإصلاح السياسي والإداري والأكاديمي والقانوني السيّئة التطبيق التي طَرحها بعضُ السياسيّين.
وفي موضعٍ آخر يقول إنّ إصلاح الإنسان من خلال تجدُّدهِ الفكريّ يَكسب وعياً وجوديّاً ومعرفةً حياتيّة، ما يُمكِّنه من التأثير الإيجابي في مُحيطه، في مُجتمعه وأمّته، وتُصبح مهمّة إنقاذ الوطن من الانهيار مهمّةً قوميّةً من مسؤوليّة الجميع.
يظلّ غانيفيت حاملاً لهموم وطنٍ مُمَزَّق، مُهدَّد بكارثةِ الانهيار، ويُحاوِل إنقاذه وحيداً، تصطدم أمانيه يوميّاً بالواقع المرير، يُجسِّد هاجساً في مؤلّفاته اللّاحقة التي تعتني بموضوعاتٍ جديدة ترتبط بقضايا عصرٍ رَفَضَ هو بالمطلق حضارته الماديّة.
المُهمّ، إنَّ قول غانيفيت في "مجموعة أفكار إسبانيّة" يُشجِّع على الثقة بالمُستقبل الروحي لإسبانيا، بخاصّة إذا ما قرأنا روايته الخياليّة الثانية "أعمال بيو تيد"، التي جَعَلَ من شخصيّتها الرئيسة شخصيّةً رمزيّة، عالِمةً، وتقع عليها مهمّة الإصلاح: "علينا أن نعمل حتّى تنهض إسبانيا"، و"إذا كانت إسبانيا في وضعٍ مُذِلّ فليس هناك من سببٍ واحدٍ يَمنعها من أن تكون عظيمةً كالأُمم الأخرى".
لم يكُن غانيفيت غريباً عن قضايا وطنه وعصره. سافرَ كثيراً في أوروبا والعالَم؛ وكان شاهداً على المُجتمع الصناعيّ لبلجيكا، النقيض لروحانيّة عالَمِه الغرناطيّ المُتمثّلة بقصر الحمراء، فأدانَ بشدّة سلبيّات الحضارة الماديّة في روايته الأولى "غزو مَملكة مايا"، تلك الرواية التحفة التي رَفعَت اسمه عالياً في بانوراما الأدب الإسباني والأوروبي، وهو يَتموْضَع فيها ضدّ أيديولوجيا عصر أَفرغت الحياة من القيَم الإنسانيّة؛ فقد أطلَّ فيها على تاريخ أوروبا، منذ زوال الإقطاعيّة ونشوء الدول الأوروبيّة في القرن 13 ولغاية الجموح القومي والتمدُّد الصناعيّ للقرن 19، ساخراً من المُجتمع الأوروبي، المُندفع بحماسة وراء التقدُّم التقني والتصنيع.
رَفَضَ غانيفيت إيديولوجيا عصره الماديّة بالمُطلق، وقاوَمَ انتقالَ عدوى ثقافة مُجتمع صناعي خالٍ من الأهداف الإنسانيّة. فإسبانيا بنظرهِ يجب أن تبقى نقيّة، حرّة، ومُخلِصة لذاتها، والتقدُّم المادّي لا يفيد إلّا لتغطية المظاهر الكاذبة ولخداع الناس. يكتب "خافيير هيريرو" شارِحاً غانيفيت هذا، المُمتلىء بروحانيّة غرناطة: "من المادّة تولَد الرغبة اللّامتناهية في المجد والطموح إلى تكديس الثروات بكلّ وسيلة على حساب الأفراد والجماعات والشعوب، ومن المادّة يولَد حبُّ السيطرة على البشريّة والكراهيّة وتسميم الفكر".
كان غانيفيت أيضاً أوّل إسباني تنبّأ بوقوع كارثة العام 1898، فدعا مواطنيه إلى إنقاذ الوطن من خلال تجديد فكرهم، وإلى الاتّفاق والتضامُن في ما بينهم، واحترام تعدُّد المواقف تجنّباً لتعميق الانقسام بينهم في أجواءٍ تَفتقر إلى النضج الثقافي، غير أنّه فَشل في تحقيق هدفه.
يكتب غانيفيت، مُتنبِّئاً بصدامٍ عنيفٍ بين قوّتَيْن عظمَيَيْن: "تقتضي الحضارةُ الماديّة بالضرورة إطفاءَ الكراهيّة بين البشر التي توسِّع مساحات القتال وتَجمَع البشر في كتلتَيْن كبيرتَيْن عدوّتَيْن بسبب الخوف الدائم المُتبادَل بينهما، فتُدمِّر الواحدةُ الأخرى تدميراً نهائيّاً، أو، على العكس، تُقرّران العَيش بسلام". كان غانيفيت إذاً يائساً ومُتشائماً من المصير الأليم والجارح الذي ستَؤولُ إليه الإنسانيّة، فرمى نفسه في نهر الدونيا في تشرين الثاني/ نوفمبر 1898، وتحقَّقت نبوءته في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فهل تتحقَّق النبوءةُ الثانية التي أشارَ إليها، ويُبعث العرب من خمودهم وركودهم الحضاريّ المُخيف؟!
*أكاديميّة وروائيّة من لبنان
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق