عبدالله الجديع

يخطئ العديد من المتحدثين باسم الجغرافيا السياسية حين ينهمكون في الوقائع اليومية، ويغفلون النظر إلى البعد الإستراتيجي بعيد المدى، بما يشمل أبحاثًا قد تكون في تقديرهم بعيدة عن السياسة، إلا أنّ لها مردودًا سياسيًا.

هنا تأتي الحاجة للاستشراف المستقبلي للأخطار والعمل على منظومات جامعة تجابهها. وحين كتب إلكسندر دوغين (أسس الجيوبولتيكا) تعرّض لما يمكن وصفه بالمخيال الديني والثقافي، وارتباطه بمشاريع جيوسياسية، كالحديث عن ارتباط العقيدة البروتستانتية بالمفاهيم الغربية عن اقتصاد السوق.

وانطلق دوغين في غمرة دفاعه عن المشروع الروسي الكبير (الأوراسي) بالسعي لتشكيل هوية تندمج مع تلك المصالح، وكان مما قدمه دراسة للمناطق الإسلامية، فتعرض لإيران بما سماه المشروع الجيوبولتيكي الشيعي، فقال إنه يناقض إسلام الغالبية بدرجة كافية من الشدة، وبهذا يرى أنَّ لهذا المشروع غير العربي «مدى كبيرًا مستقلًا بذاته» مرتبطًا أكثر من غيره بروسيا.

هذا التحليل من دوغين يحث على قراءة لمشاريع متنوعة، وفحص مدى إمكان خدمتها للأهداف الجيوسياسية. فعلى صعيد تركيا، فلها تاريخ في المنطقة اعتمدت فيه على تصورات وأفكار دينية معيّنة، حتى تضمن حكمها الذي استمر لمدة طويلة. ففي عهد تركيا/ السلطنة دعمت الطرق الصوفية بكثافة، وتبنت المذهب الحنفي طيلة حكمها، وهو الذي يرجع إلى الإمام أبي حنيفة (150هـ) والوحيد من بين المذاهب الأربعة الذي يرجع لأصول غير عربية. وأمكن وفق هذا المذهب تخريج قضية مهمة بالنسبة لتركيا في تلك المرحلة. وقد كتب نجم الدين إبراهيم بن علي الطرسوسي (758هـ) كتابًا بعنوان (تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك)، وافتتح فصله الأول بعنوان (بيان سلطنة الترك) ومما قاله فيه: «قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يشترط في صحة توليته [أي: السلطان] أن يكون قرشيًا ولا مجتهدًا، ولا عدلًا، بل يجوز التقليد من السلطان العادل والجائر»، ثم لمز الشافعية بأنهم «لا تصح سلطنة الترك عندهم، ولا تصح توليتهم من الترك على مذهبهم، لأن من لا يصح أن يكون سلطانًا كيف يصح التقلد منه، وفي هذا القول من الفساد ما لا يخفى»، ثم قال: «ولهذا قلنا: إنَّ مذهبنا أوفق للترك وأصلح لهم من مذهب الشافعي».

تم اعتماد المذهب الحنفي بين الأتراك، وكان لهذا أبعاد كبيرة في مناطق انتشاره بالنسبة للعمق السياسي الجغرافي لتركيا. ومع هزيمة تركيا التي كانت حليفة لألمانيا في الحرب العالمية الأولى، انكفأت على تغيرات عميقة داخلها طيلة القرن العشرين حتى تواكب التقدّم الأوروبي، وصقل هويتها القومية الحديثة، لكنَّ الاتحاد الأوربي لم يقبلها فيه، وبهذا اتجهت مرة أخرى نحو الشرق، وأعادت تطويع هويتها بما يتفق مع هذا المشروع، وفي غمرة هذه الاستراتيجية كانت تعد لنفسها ذراعًا مستقبليًا في المنطقة.

فاعتمدت في سياستها على قوى عربية توجهها كما في أحداث سوريا، فاحتوت العديد من عناصر جماعة الإخوان، الذين نشطوا على أرضها، وجددوا من شبكاتهم، وقنواتهم الإعلامية، وألزمهم التقارب الذي حرصت عليه مع الدول العربية بتخفيف لهجتهم، واستبعدت أحيانًا العناصر الأكثر تفلتًا بينهم، كرفضها منح الإقامة لوجدي غنيم، وأبقت على العناصر الطيعة أكثر في يدها. هؤلاء الذين خدموا سياستها في عدة ملفات، في سوريا، وفي ليبيا، وغيرها. إلا أنّ النظر البعيد لا ينحصر في استغلال جماعة سياسية، بقدر البحث فيما يؤثر في تشكيل المعتقدات بالمنطقة العربية وآسيا الوسطى، إلى تركستان تلك التي تراها تركيا مجالًا لجغرافيتها السياسية.

فعمدت إلى استيعاب أكبر قدر ممكن من الطلبة الشرعيين من مختلف تلك المناطق، وتوفير المنح الجامعية، لدفعهم إلى الكليات التي بعثت فيها التراث ( الماتريدي الحنفي) سواء في التدريس، أو التحقيق، والطباعة والنشر، فنشط فيها تحقيق المخطوطات الحنفية وهي التي تحوي على عدد وافر منها، ليعود هؤلاء الطلبة إلى مناطقهم ويعملون بدعم تركي في كثير من الأحيان. ولا يمكن الاستهانة بتأثير هؤلاء على المدى البعيد في ربط الشعوب بتركيا، مع هالة دينية باسم المذهب الحنفي والعقيدة الماتريدية، وهو ما يجعل تحرك تركيا سياسيًا أسهل عليها في المناطق التي ينتشرون فيها، وقد اكتسبت قطاعات من الشعب عملت عليهم بنفس طويل، فهي تسعى لإعادة تثبيت أقدامها وفق جغرافيا سياسية تخدم أهدافها.