فاطمة المزيني

انتهت حلقات العمل الدرامي التاريخي الاستثنائي «سفر برلك»، تاركة وراءها عددًا لا يحصى من التساؤلات والمشاعر، ولا أبالغ إن قلت إنه أحدث أثرًا اجتماعيًا واقتصاديًا كبيرًا سيتراكم مع الأيام، ولا عجب في ذلك، إنه مفعول الحقيقة.

تدور أحداث المسلسل في العقد الثاني من القرن الماضي، وهي الفترة التي تزامنت مع سقوط دولة العثمانيين وخروجها من المناطق العربية التي كانت تحتلها، ويلقي الضوء بشكل أساسي على أحداث التهجير القسري الذي فرضته الدولة العثمانية على أهل المدينة، كجزء من التغيير الديموغرافي والتتريك الذي كانت تخطط له في الحجاز.

ومهما كانت مآخذ النقاد على العمل، سواء من الناحية الفنية أو من ناحية السرد الدرامي، إلا أن العمل أثبت بحق جدارة صناعه بمعالجة قضايا شديدة الحساسية ببراعة مدهشة تجاوزت الجدليات الخلافية والذاتية التي تمثلها الأسماء، وتمكنت من رصف الحمول التاريخية على شخصيات العمل بشكل خلاق وسلس، كما ضغطت الأحداث لتقديم مشهد مختصر وعميق عن المأساة.

تميز العمل بالإمكانات الإنتاجية الضخمة التي ظهرت بوضوح في المحاكاة الدقيقة للبيئات المتنوعة، بما تتضمنه من أزياء ولهجات وطابع عام للحياة في المدينة والشام واسطنبول، على إنني ألمس فاقدًا في التصوير من داخل المسجد النبوي للانتهاكات والجرائم التي جرت من قبل فخري باشا وعساكره واعتداءاتهم على الحجرة النبوية والحرم، أحداث كهذه كان من شأنها نقل العمل إلى مستوى أعلى، وتكثيف الصورة الذهنية حول المأساة وملامسة الزوايا الروحية التي انتهكها الاحتلال العثماني في الكينونة العربية.

لم نقل كل شيء، فقد كان الليل العثماني في البلاد العربية طويلا وحالكًا، كان السلوك العسكري العثماني يفتقر للنزاهة والشرف، وكانت الاعتداءات السافرة على المنازل والممتلكات شيئًا معتادًا، كما كان التمثيل بالبشر أمواتًا وعلى المشانق أمرًا مقبولا في العقيدة العسكرية العثمانية، ولا شك بأننا نحتاج لمزيد من الأعمال الدرامية لتقديم هذا التاريخ، فهو جزء من ماضينا وذاكرتنا، ولم تكن محاولات طمسه إلا تهميشًا عثمانيًا أخيرًا أسبغ قسرًا على المشهد الثقافي العربي خلال العقود الماضية.

ختامًا.. كان المسلسل ثريًا بالأسماء الفنية اللامعة، التي أضافت للعمل من خبراتها مثل محمد بخش، وعابد فهد، وعبدالهادي الصباغ وغيرهم، كما كان مبشرًا جدًا رؤية الوجوه السعودية الجديدة التي أبدعت وتألقت وقدمت أدوارًا صعبة ومركبة، توحي بأننا على أعتاب مستقبل واعد للدراما السعودية.