قبل أكثر من تسعة عقود كانت مهنة التجارة في تنومه تكتنفها بعض الصعاب وأهمها صعوبة التنقل، بالإضافة إلى أن البيع والشراء لا يتم إلا في يوم واحد هو يوم السبت الذي هو أشهر الأسواق في ذلك الوقت، وهو سوق سبت تنومه الذي يعرف بـ«سبت ابن العريف»، وإذا لم يستطع التاجر أن يبيع ما جلبه من بضاعة في ذلك السوق فإنه يسوقه في المنطقة من «سوق اثنين بللسمر» جنوبًا حتى «سوق خميس العرق» شمالا، وهذا التنقل صعب للغاية إذ أن وسيلة النقل في ذلك الوقت هي الجمال والحمير.
وممن كانوا يمارسون مهنة التجارة في ذلك الزمان الشاب فايز بن شباب الشهري، حيث كان يمارس تجارة الأقمشة والملبوسات بأنواعها، فقد اختار أن يشتري كمية من المصانف ويبيعها في تنومة، فقد كانت تجارة بيع وشراء المصانف رائجة في ذلك الوقت، حيث إن المصنف إرث من قديم الزمان يحمله سكان السراه على أكتافهم منذ زمن بعيد، وهو لحاف طويل يقارب المترين وخمسة وعشرين سنتيمتر طولا، والمتر وخمسة وعشرين سنتيمتر عرضًا، وفي الغالب يكون باللون الأحمر والبرتقالي والأصفر والأبيض كألوان طولية، والمصنف يلبس في جنوب المملكة العربية السعودية عامة من الباحة شمالا إلى عسير وجازان جنوبًا.
ففي تهامة والساحل يلبس كإزار، ومن فوق بما يسمى السديرية، وفي المناطق الجبلية «السراه» يتم التوشح به حول الرقبة والصدر أو الاحتزام به مع الجنبية أو الخنجر، وعلى الرغم من تقادم عهده إلا أن لبسه لايزال عند العديد من كبار السن وفي المناسبات العامة والأفراح، كنوع من حب التراث ولشراء كميات بالجملة، فلم يكن متوافرًا في ذلك الوقت إلا في محايل عسير، فقرر ذلك الشاب السفر إلى هناك، وقد أخبر والديه بذلك فطلبًا منه وبإلحاح أن يذهب إلى جيزان للاطمئنان على أحد أبنائهم الذي يعمل هناك، وقد أجابهما بالسمع والطاعة.
وغادر تنومة ومعه دعاء والديه له ومبلغ من المال يقدر بأكثر من ألف ريال فضة؛ ولأن الطريق باتجاه جيزان طويلة، وقد تكون غير آمنة في ذلك الوقت، فكان اهتمامه هو المحافظة على المال الذي بحوزته، فعند وصوله إلى مدينة صبيا وهو في طريقه إلى جيزان تم إرشاده إلى عدد من السيدات، وظيفتهم حفظ الأمانات من نقود أو أشياء ثمينة مقابل مبالغ مالية، فاتجه إلى إحداهن وأودع نقوده لديها ووعدها بأنه سوف يعود لاستلامها في مدة لا تتعدى الأربعة أيام.
وغادر باتجاه مبتغاه ووصل إلى جيزان واطمأن على أحوال أخيه، ثم عاد أدراجه باتجاه صبيا، وعند وصوله إليها كانت المفاجأة أنه لم يستطع العثور على منزل تلك السيدة التي أودع عندها نقوده، والسبب أنه لم ينتبه إلى التشابه بين البيوت المصنعة من القش الذي كان بيت تلك السيدة أحدها، إذ أن تعداد تلك البيوت المتشابهة بالعشرات، فما كان منه إلا البحث عن تلك السيدة في شوارع مدينة صبيا، واستمر على ذلك الحال ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع شعر بيد تمسك بثوبه من الخلف فالتفت وإذا بها تلك المرأة التي أودع عندها نقوده، حيث قالت له.. أين أنت لقد تأخرت عليَّ لأنني كنت أود الذهاب لزيارة أحد أقاربي في القرية المجاورة، لكني بقيت هنا حتى أسلمك أمانتك التي كانت بحوزتي، ففرح بذلك وأعطاها ثلاثة أضعاف ما تم الاتفاق عليه وشكرها على وفائها وأمانتها وغادر باتجاه محايل عسير، وهناك قام بشراء كميات كبيرة من المصانف واستأجر جملين لإيصالها إلى تنومة، وهناك اتجه لوالديه وطمأنهم على أحوال أخيه في جيزان ثم أخذ بتسويق جزء من المصانف التي جلبها في «سوق سبت تنومه»، وكان يقوم بمساعدته أعز أصدقائه «علي»، والذي يعتبر من أقرب الأصدقاء محبة إلى قلبه وبينهم من الود والوفاء ما يفوق الأخوة، إلا أن الاثنان لم يوفقا ببيع الكمية التي كانا يطمحان في بيعها، فقد أشار صديقه عليه أن هذه المصانف سوف تجد رواجًا عند بيعها في «سوق خميس العرق»، والذي يقع إلى شمال تنومه في قرية اسمها الخضراء على مسافه تقدر بحوالي خمسين كم، وقال إن رجال تلك المنطقة شيبًا وشبابًا يشتهرون بارتداء المصانف، فوافقه الرأي.
وتوجه الاثنان إلى هناك وعند وصولهما إلى سوق خميس العرق، وفي السوق كان الشاب فايز يبيع وصديقه علي يقبض الثمن، وكان الإقبال على الشراء كبيرًا، وفي وقت وجيز تم بيع جميع تلك المصانف، وبالصدفة التقى الاثنان في السوق بشخص له معرفة مسبقة بـ«علي» وقد وجه لهما الدعوه بتناول طعام الغداء معه بالبيت؛ لأن بيته بجوار السوق فوافق الاثنان على تلبية الدعوة وذهبا معه إلى بيته، وبعد الغداء تفاجأ فايز بن شباب بأن صديقه «علي» يتقدم إلى مضيفهم بطلب القرب منه بالزواج من ابنته على سنة الله ورسوله فوافق الأب وقام «علي» بدفع المهر، وهو المبلغ الذي تم جمعه من بيع المصانف، وقد بدأت علامات السعادة على وجه صديقه «فايز» إلا أن ما عكر جو الفرحة أنه لا يوجد في ذلك اليوم من لديه المعرفة لعقد القران، فتوجه الأربعة.. الاثنان والبنت وأبوها جنوبًا باتجاه تنومه، حيث وجدوا «المملك» في قرية «باللحصين» على بعد ثلاثين كم جنوبًا، وبعد عقد القران عاد أبو البنت إلى قريته واتجه العريس ترافقه زوجته إلى قريتة -إحدى قرى آل مروح- أما «فايز» فقد اتجه إلى بيته في الطرف الشمالي الغربي لسوق سبت تنومه، وفيما بعد أعاد على لرفيق عمره المبلغ الذي دفعه مهرًا لزوجته، وقد عاش الصديقان حتى تجاوزا المئة عام من العمر والمودة والمحبة، لم تفارقهما حتى انتقلا إلى رحمة الله.
ومما سبق يتضح التكافل الاجتماعي والأسري في ذلك الوقت رغم صعوبة الحياة، وكذلك الأمانة والمحافظة عليها حتى تعود لأصحابها، وكانت السيدة الجيزانية خير مثال.. رحم الله من سبقونا من الآباء والأجداد الذين كانوا خير مثال يحتذى به.
وممن كانوا يمارسون مهنة التجارة في ذلك الزمان الشاب فايز بن شباب الشهري، حيث كان يمارس تجارة الأقمشة والملبوسات بأنواعها، فقد اختار أن يشتري كمية من المصانف ويبيعها في تنومة، فقد كانت تجارة بيع وشراء المصانف رائجة في ذلك الوقت، حيث إن المصنف إرث من قديم الزمان يحمله سكان السراه على أكتافهم منذ زمن بعيد، وهو لحاف طويل يقارب المترين وخمسة وعشرين سنتيمتر طولا، والمتر وخمسة وعشرين سنتيمتر عرضًا، وفي الغالب يكون باللون الأحمر والبرتقالي والأصفر والأبيض كألوان طولية، والمصنف يلبس في جنوب المملكة العربية السعودية عامة من الباحة شمالا إلى عسير وجازان جنوبًا.
ففي تهامة والساحل يلبس كإزار، ومن فوق بما يسمى السديرية، وفي المناطق الجبلية «السراه» يتم التوشح به حول الرقبة والصدر أو الاحتزام به مع الجنبية أو الخنجر، وعلى الرغم من تقادم عهده إلا أن لبسه لايزال عند العديد من كبار السن وفي المناسبات العامة والأفراح، كنوع من حب التراث ولشراء كميات بالجملة، فلم يكن متوافرًا في ذلك الوقت إلا في محايل عسير، فقرر ذلك الشاب السفر إلى هناك، وقد أخبر والديه بذلك فطلبًا منه وبإلحاح أن يذهب إلى جيزان للاطمئنان على أحد أبنائهم الذي يعمل هناك، وقد أجابهما بالسمع والطاعة.
وغادر تنومة ومعه دعاء والديه له ومبلغ من المال يقدر بأكثر من ألف ريال فضة؛ ولأن الطريق باتجاه جيزان طويلة، وقد تكون غير آمنة في ذلك الوقت، فكان اهتمامه هو المحافظة على المال الذي بحوزته، فعند وصوله إلى مدينة صبيا وهو في طريقه إلى جيزان تم إرشاده إلى عدد من السيدات، وظيفتهم حفظ الأمانات من نقود أو أشياء ثمينة مقابل مبالغ مالية، فاتجه إلى إحداهن وأودع نقوده لديها ووعدها بأنه سوف يعود لاستلامها في مدة لا تتعدى الأربعة أيام.
وغادر باتجاه مبتغاه ووصل إلى جيزان واطمأن على أحوال أخيه، ثم عاد أدراجه باتجاه صبيا، وعند وصوله إليها كانت المفاجأة أنه لم يستطع العثور على منزل تلك السيدة التي أودع عندها نقوده، والسبب أنه لم ينتبه إلى التشابه بين البيوت المصنعة من القش الذي كان بيت تلك السيدة أحدها، إذ أن تعداد تلك البيوت المتشابهة بالعشرات، فما كان منه إلا البحث عن تلك السيدة في شوارع مدينة صبيا، واستمر على ذلك الحال ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع شعر بيد تمسك بثوبه من الخلف فالتفت وإذا بها تلك المرأة التي أودع عندها نقوده، حيث قالت له.. أين أنت لقد تأخرت عليَّ لأنني كنت أود الذهاب لزيارة أحد أقاربي في القرية المجاورة، لكني بقيت هنا حتى أسلمك أمانتك التي كانت بحوزتي، ففرح بذلك وأعطاها ثلاثة أضعاف ما تم الاتفاق عليه وشكرها على وفائها وأمانتها وغادر باتجاه محايل عسير، وهناك قام بشراء كميات كبيرة من المصانف واستأجر جملين لإيصالها إلى تنومة، وهناك اتجه لوالديه وطمأنهم على أحوال أخيه في جيزان ثم أخذ بتسويق جزء من المصانف التي جلبها في «سوق سبت تنومه»، وكان يقوم بمساعدته أعز أصدقائه «علي»، والذي يعتبر من أقرب الأصدقاء محبة إلى قلبه وبينهم من الود والوفاء ما يفوق الأخوة، إلا أن الاثنان لم يوفقا ببيع الكمية التي كانا يطمحان في بيعها، فقد أشار صديقه عليه أن هذه المصانف سوف تجد رواجًا عند بيعها في «سوق خميس العرق»، والذي يقع إلى شمال تنومه في قرية اسمها الخضراء على مسافه تقدر بحوالي خمسين كم، وقال إن رجال تلك المنطقة شيبًا وشبابًا يشتهرون بارتداء المصانف، فوافقه الرأي.
وتوجه الاثنان إلى هناك وعند وصولهما إلى سوق خميس العرق، وفي السوق كان الشاب فايز يبيع وصديقه علي يقبض الثمن، وكان الإقبال على الشراء كبيرًا، وفي وقت وجيز تم بيع جميع تلك المصانف، وبالصدفة التقى الاثنان في السوق بشخص له معرفة مسبقة بـ«علي» وقد وجه لهما الدعوه بتناول طعام الغداء معه بالبيت؛ لأن بيته بجوار السوق فوافق الاثنان على تلبية الدعوة وذهبا معه إلى بيته، وبعد الغداء تفاجأ فايز بن شباب بأن صديقه «علي» يتقدم إلى مضيفهم بطلب القرب منه بالزواج من ابنته على سنة الله ورسوله فوافق الأب وقام «علي» بدفع المهر، وهو المبلغ الذي تم جمعه من بيع المصانف، وقد بدأت علامات السعادة على وجه صديقه «فايز» إلا أن ما عكر جو الفرحة أنه لا يوجد في ذلك اليوم من لديه المعرفة لعقد القران، فتوجه الأربعة.. الاثنان والبنت وأبوها جنوبًا باتجاه تنومه، حيث وجدوا «المملك» في قرية «باللحصين» على بعد ثلاثين كم جنوبًا، وبعد عقد القران عاد أبو البنت إلى قريته واتجه العريس ترافقه زوجته إلى قريتة -إحدى قرى آل مروح- أما «فايز» فقد اتجه إلى بيته في الطرف الشمالي الغربي لسوق سبت تنومه، وفيما بعد أعاد على لرفيق عمره المبلغ الذي دفعه مهرًا لزوجته، وقد عاش الصديقان حتى تجاوزا المئة عام من العمر والمودة والمحبة، لم تفارقهما حتى انتقلا إلى رحمة الله.
ومما سبق يتضح التكافل الاجتماعي والأسري في ذلك الوقت رغم صعوبة الحياة، وكذلك الأمانة والمحافظة عليها حتى تعود لأصحابها، وكانت السيدة الجيزانية خير مثال.. رحم الله من سبقونا من الآباء والأجداد الذين كانوا خير مثال يحتذى به.