فاطمة المرنيسي

في مكة حيث كانت التجارة هي النموذج والمرجع، كان أمن الآلهة صعب التحقيق إن لم يكن غير ممكن، فحتى مجيء الإسلام كانت ممارسة الابتزاز للآلهة مثل «أعطني ماشية إن أردت أن أبقى مؤمنا بك» تمنع أية إيديولوجية توحيدية من أن تتجذر جدياً، أو أن تثبت قيمتها وفعاليتها.

الإسلام بهذا المعنى ليس سوى صرخة طويلة ضد الفردية وغطرستها وإنهاء ذلك الاعتداد المطلق بالذات، الذي طالب الرسول «صلى الله عليه وسلم» به العرب الأرستقراطيين بحزم، أن يضحوا واضعين قدرهم بيد الله، طاعة كاملة وبدون تجزيء، مما يسمح بتكوين الجماعة المتساوية.

فيتيح إلغاء الفرديات أمام الله، سيد الكون، ببناء الركيزة الأخرى من النظام الإسلامي: المساواة. المساواة المطلقة للجميع، رجالاً ونساء، سادة وعبيداً، عرباً وأعاجم، هي ما يكفله الإسلام بجانب السلام، مقابل استسلام الفردية، ومن الآيات الأكثر دلالة في هذا الخصوص الآية «13: الحجرات» التي تلاها الرسول «صلى الله عليه وسلم» في خطبته في الكعبة حالما طهرت من الأصنام، والتي تتلى بانتظام أثناء افتتاح المؤتمرات الإسلامية الدولية: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا». هذه الآية ذات استعمال مألوف في الوقت الحاضر، لأنها توجز وتعبر بوضوح عن رسالة أمة تتألف من متساوين، يتجاوز تضامنهم الحدود والثقافات، ليعطوا للإسلام ذلك المعنى الجميل للانتماء، وذلك التقارب العالمي، الذي يؤثر فينا كثيرا عندما نكون في سفر.

فمن دكار إلى ماليزيا تشع وجوه التجار اللامبالين منذ الوهلة الأولى، أو عندما أسأل من أين قدمت فأجيب من المغرب. «آه، المغرب الأقصى ! لا إله إلا الله !». وفجأة أتمتع بكل مظاهر الاعتبار من المقعد الذي يقدم لي، إلى الكوكاكولا الباردة التي تحضر لي من الدكان المجاور. وإلى أسعار الأساور المصنوعة من العظم أو من الزجاج التي أرغبها كثيراً، هذه الأسعار تنهار بسرعة عجيبة عندما تفلت كلمة عربية مني، أثناء مشاهد المساومات التي لا تنتهي.

بالتأكيد لا يمكن أن نفسر الإسلام السريع والعجيب، بالاعتماد فقط على حب العرب المؤمنين للقتال. إننا بهذا ننسى عاملاً مهماً جداً هو إصرار القرآن على المساواة بين الجميع، أيأكان العرق والأصل الاجتماعي هذا ما جعل من الإسلام رحالة رزيناً مطمئناً، إنه يتجول بكل بساطة دون جيوش ودون سيوف، متبعاً طرق التجارة. عبر الإسلام آسيا وأفريقيا، حيث كانت السلالات الحاكمة تملك غالباً صلابة الطبقات المغلقة، وتبع طرق التجارة الطويلة حتى أندونيسيا والصين، حيث أصبحت الديانة البوذية مهددة أكثر بكثير من غيرها.

«نفذ الإسلام إلى أماكن لم تصل إليها المسيحية. ففي نهاية الفترة الوسيطة كان قد تجذر في جزر أفريقيا الشرقية كزنجبار وجزر القمر، وفي موانئ تجارية على طول الساحل. هنا لم يكن الإسلام مضطراً لمحاربة أية ديانة حضارية مهمة. أما في شمال غرب الهند فكانت المجتمعات العمرانية مخلصة لتقاليدها الهندوسية والبوذية، واحتل الإسلام مكانة متفوقة في سائر موانىء هذه المناطق، وفي القرن الرابع عشر تقدم الإسلام على طول شبه جزيرة ماليزيا وساحل سومطرة «يعود الفضل في جزء كبير من ذلك إلى مجتمعات تجارية في جنوب الهند»، حيث كانت التجارة تتبع الطريق البحري الذي يربط بين خليج البنغال وبحر الصين الجنوبي. كانت ثقافات جنوب شرقي آسيا الأكثر تطوراً تتجه باتجاه المجتمعات التجارية الهندية، متخذة إياها كنموذج لها، وخلال قرون عديدة كانت هذه الأخيرة تدين بالهندوسية، وفيما بعد بدأت تميل إلى الارتباط أكثر فأكثر بالإسلام، ومعه بالثقافة العربية الفارسية، وفي حدود عام 1500 كان الإسلام قد صار قوة أساسية في كامل الأرخبيل الماليزي وعلى طول الساحل الصيني».

عندما وضعت رحالي في مطار كراتشي للمرة الأولى الساعة الرابعة صباحاً في عام 1987، وأنا نصف نائمة، فوجئت بسماع الجمركي يقترح علي برقة أن يريني المدينة عندما يحل النهار، ولما رفضت اقتراحه تلا عليّ باللغة الفصحى الآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات المذكورة آنفاً.

الآية نفسها كانت قد تليت علي، إنما تلك المرة بلغة عربية مشوبة بلكنة أمريكية، تلاها عازف جاز كنت ذهبت للاستماع إليه في روكسبري، الحي الأسود في بوسطن. كان ذلك في السبعينيات وكنت آنذاك طالبة، كان الكثير من السود يهتدون إلى الإسلام على غرار مالكولم العاشر. وهكذا اكتشفت خلال إقامتي الدراسية في أمريكا وعن كثب، ذلك البعد الجذاب جداً في الإسلام بالنسبة للأقليات المضطهدة. ذلك البعد الذي لم يثر انتباهي حين كنت في بلادي حيث إن غياب المساواة والتضامن أمر مألوف.

فيما يخص التضامن الاجتماعي، يعطي الإسلام أمالاً هائلة للمؤمنين، وقد تبين حالياً أنه الثقافة الأكثر قدرة على التقاط ما يعانونه من حرمان، والتعبير عنه. فالمقدس يثأر حالياً من أولئك الذين تلاعبوا به، ويصبح كما كان عند مولده قوة تهز الامتيازات، أكان على المستوى الإقليمي أم العالمي. فقوى اليسار الحديثة المتعلمنة، كالحركات التي تستمد أفكارها من الاشتراكية والماركسية، لم تستطع مطلقاً وهي المكافحة والمطاردة. أن تتم مشروعها عميقاً وهو الذي كان يمكن له الدخول في مخططات أخرى ومعالم مغايرة. وقد لعبت الحرب الباردة دوراً كبيراً في تشويه النمو الثقافي لتلك المجتمعات في العالم الإسلامي. فكفاح أمريكا ضد اليسار الاشتراكي، الذي كان من نتائجه إخفاق مصدق إثر مؤامرة حاكتها المخابرات المركزية الأمريكية، مثال معبر تعبيراً كافياً، صنعت الأصولية من كل نوع، إنها لا تعوق تجدد الإسلام فحسب، بل تصنع منه موكباً جنائزياً للأحلام المتحجرة، التي تضيع في رمال الصحراء. فالأصولية تخفض الذكاء إلى مستوى ردود الفعل الانفعالية والداخلية، وكل سقوط للذكاء يحمل في داخله بذور الانحطاط، هذه الحداثة المشوهة، والمفرغة من مكتسباتها الديمقراطية، والمبتورة الانفتاح الثقافي والعلمي، هذه الحداثة قد فتحت الطريق لبائعي الآمال المألوفين لدينا كثيراً. وبسبب الافتقار للنظرة العميقة في الوقت الحاضر، والافتقار أكثر في المستقبل، فإن هؤلاء الباعة سيجروننا إلى الأرضية الوحيدة، التي يمكن للتصورات التخيلية الخادعة أن تزهر، ألا وهي الماضي. وسيذكر الماضي باستمرار حيث يتلاعب بلا ضمير بلغته الغنية المحملة بالرموز والصور، والمشبعة بالانفعالات والراشحة بالآمال.

1991*

* باحثة وكاتبة مغربية «1940 - 2015».