إدوارد سعيد

الكاتب: ادوارد سعيد

ليس هناك مجتمع يخلو تماما من السيطرة على الفكر والتعبير، ولو أن السيطرة ليست دوما من فعل المؤسسات الرسمية. وأعتقد أن من الصحيح أن هناك أشياء لا يمكن قولها أو كتابتها بسهولة؛ ففي الولايات المتـحـدة من المستحيل منذ سنين توجيه النقد إلى إسرائيل، ومن شبه المستحيل الآن نشر مادة تنطلق من المنظور الفلسطيني في أي مطبوعة أمريكية رئيسية - ولكن ليست هناك وزارة إعلام أو مكتب رقابة في أمريكا ويمكن حظر شخص ما أو منظمـة مـا (مثلما بقيت منظمة التحرير محظورة سنوات طويلة) ولكن كانت هناك دومـا مقاومة نشيطة وصريحة للحظر. من هنا فإن حرية التعبير نسبية ولكن من الواجب، كما أرى، حمايتها قانونيا ودستوريا. وإذا لم يتم ذلك فإن ما يمكن قوله أو كتابته -وفي النهاية التفكير به- سيخضع لنزوات ومزاج شخصي.

حرية التعبير النسبية في الغرب تم تحصيلها عبر فترة زمنية طويلة، وكـانـت نـتـيـجـة صـراع، أولا، بين الارستقراطية المالكة للأراضي والملكية، ثم بين الارسـتـقـراطيـة والطبـقـات الوسطى، ولم يكن هذا هو الحـال فـي أكثر البلاد العربية، إن لم يكن كلها، حيث تهيمن السلطة التنفيذية على الدسـتـور وقـوانـين الدولة، في حين لا تزال الفئات الوسطى طبقات اقتصادية ومهنية وليست سياسية. وعندما يأتي الأمر إلى السيطرة على التعبير، فإن الوضع السائد في العالم العربي يقـتـرب من المهزلة، لأن وسائل الاتصال الإلكترونية والقدرة على السفر، بل الواقع نفسه، يجـعـل مـحـاولات السيطرة من قـبل السلطات مثيرة للسخرية. إلا أن الرقابة لا تزال مـوجـودة، وتدوم فـي أحـيـان كثيرة عن طريق العنف، في شكل يكلف مجتمعاتنا الكثير. ولم أسمع أو أقرأ حتى الآن دفاعا حقيقيا عن الرقابة، على الرغم من أن عددا كبيرا من الصحافيين، وهناك عـدد مـهم من الفنانين والمثقفين يدفع الثمن. والغريب أن كل الدسـاتـيـر الـعـربـيـة لا تسمح بفرض الرقابة، ومع ذلك تمارس بقسوة على أنواع معينة من الآراء والتعابير. ولا يريد الحكام خوض نقاش حـقـيـقي في قضية الرقابة، لأنها لا تستطيع مقاومة ضوء العقل ومتطلبات المنطق. فالرقابة تبقى دوما في الظلام، ويندر أن تـقـدم تفسيرا كاملا لنفسها، وتتجنب النقاش الـعـام، وتبـقى مـثـل يـتـيـم منكمش على نفسه. وها هو الحظر يفرض على كتبي في فلسطين، من دون أن يعـتـرف أحـد بالمسؤولية عن أمر منعها ومصادرتها من المكتبات.

للرقـابـة كـمـا نـجـدهـا اليـوم في المجتمعات العربية ناحيتان تثيران القلق في شكل خـاص: الأولى أنـهـا ليست ذات فاعلية، بمعنى أنها لم تؤد إلى تحسين أي من الأنظمـة، أو تزيد شعبية مسؤول، أو تجـعـل صـحـيـفـة مـا أو جامعة أكثر اتصالا بعالم اليـوم، أو تضمن للمجتمعات قسطا أكبر من الأمن والاسـتـقـرار والحـداثة. وهي تصـيب الجميع، بأضرار لا حـصـر لـهـا. إذ جعلت المجـتـمـعـات العـربـيـة عـمـومـا الأقل ديمقراطيـة في الـعـالـم، وأصـابت بالإحباط والخـيـبـة كل عربي يخجل اليـوم حـتـى من كونه عـربـيـا. وأهدرت ثروات روحـيـة وفكرية لا تقدر بثمن، عنـدمـا أدت إلى نفي الموهوبين وتوقف البحث والاستكشاف والتفكير، وكل ذلك بسـبب الرقـابـة وحظرها للنقـاش والبـحـث الـحـر. السؤال إذن هو لماذا تستمر الرقابة ما دامت غير فاعلة؟ هذا هو الوجه الآخـر للرقابة المقلق.

1996*

* كاتب وأكاديمي فلسطيني / أمريكي «1935-2003»