منذ تأسيس المملكة العربية السعودية على يد المغفور له الملك عبدالعزيز كان الاهتمام الأول بالتعليم فتم إنشاء المدارس في جميع أنحاء المملكة، وكان ذلك هو الاتجاه الصحيح رغم عدم وجود الطرق المعبدة، وكان ذلك بسبب اقتناع الدولة في ذلك الوقت أن التعليم هو الأساس لبناء مجتمع واع يقوم بعمليات التنمية للحاق بركب التطور الذي يشهده العالم المتقدم في ذلك الوقت.
سوف أتحدث عما عايشته بنفسي في تنومة والنماص اللتين كانتا بلدتين صغيرتين وأصبحتا الآن من أكبر محافظات منطقة عسير، ففي بداية ستينيات القرن الماضي لم يكن في تنومة إلا مدرسة ابتدائية واحدة (مدرسة تنومة الابتدائية) لا أدري لماذا تغير اسمها بعد عشرات السنين إلى (مدرسة البخاري)؟
كنت وزملائي الأطفال ندرس فيها، وكانت المعاناة قاسية جدًا سواء داخل فصول المدرسة أم خارجها، ففي المدرسة تتمثل المعاناة في المبنى.
المبني من الحجر والطين بأبوابه ونوافذه الضيقة التي تمنع التهوية الصحية والسقف الذي يسمح بنفاذ مياه الأمطار على رؤوسنا، تنومة معروفة بغزارة وكثرة الأمطار على مدار العام إضافة إلى المعاملة السيئة من المدرسين لقلة في المدرسين السعوديين وكثرة من الجنسيات العربية، وكان أشدهم قساوة الفلسطينيين رغم أن آباءنا في ذلك الوقت يقترون على أنفسهم لتوفير ريالًا يجمع لدعم فلسطين، فقد كانوا يزرعون الكراهية بيننا وبين بعضنا والحمد لله أنهم كانوا قلة في المراحل التالية.
وقد كان الآباء والأمهات يثقون ثقة عمياء بالمدرسة، وكان الضرب في المدرسة هو الوسيلة المثلى للتعامل، إضافة إلى أن الوقت في البيت لا يكفي للمذاكرة والتحضير لليوم الدراسي التالي.. وإني أقدم نفسي كمثال في ذلك وقد أكون أكثر حظًا من غيري، فكنت أستيقظ من النوم قبل صلاة الفجر ثم أصلي للفجر وآخذ البقر المكونة من( أربعة ثيران وبقرتين وأربعة حسلان)، والحسلان هم أبناء البقر آخذ هذه المجموعة، وأمشى بها مسافة تقدر بحوالي ثلاثة كيلو مترات، ثم أتركها لترعى لوحدها وأعود للبيت أتناول جزءًا من خبزة وشاي كفطور، ثم أتوجه للمدرسة.
بعد العودة إلى البيت أتناول وجبة الغداء، ثم أعيد البقر من المكان السابق إلى البيت، ثم إذا فيه وقت أقوم بتقديم الأكل للجمل، وذلك بتلقيمه والبعض من أبناء الجيران زملائي في المدرسة يقوم برعي الغنم بدل الأبقار.
رغم ذلك استطعنا الحصول على الشهادة الابتدائية حيث شكلت لجنة للاختبار في النماص لأربع مدارس مدرسة تنومة ومدرستين بالنماص والرابعة من الخضراء شمال النماص، ثم أتت مرحلة النتائج يتم إعلانها بواسطة الراديو، وعند سماع الأسماء يقوم كل أب بإطلاق النار في الهواء احتفاء بهذه المناسبة.
وبعد الحصول على الشهادة الابتدائية تأتي مرحلة المتوسطة، وهي لا توجد إلا في النماص (مدرسة النماص المتوسطة)، فنكون أبناء تنومة مضطرين للاغتراب لأن المسافة بين تنومة والنماص عبر الطريق القديم الذي يمر وسط القرى حوالي 40 كم، وعليك أن تتصور طفلًا في الاثنتى عشرة من عمره بعيدًا عن أحضان والديه فأصبحنا مغتربين، وكانت المعاناة صعبة رغم المعاملة الطيبة والأبوية من أهالي النماص فالدراسة كانت على مدار الأسبوع ما عدا يوم الجمعة، وكنا نشتاق لرؤية أهلنا فنضطر للذهاب إلى تنومة بعد الدراسة يوم الخميس ركوبًا على الحمير أو مشيًا على الأقدام، ولا نصل إلى تنومة إلا بعد غروب الشمس، ونكون في حالة يرثى لها من شدة التعب والإرهاق، وقد انتفخت أرجلنا من الإجهاد أثناء المشي المستمر، فتقوم كل أم بمساعدة ابنها والدموع تنهمر من عينيها وهي تدعو له أن ينهي المرحلة المتوسطة بنجاح وبصحة جيدة.
نعود يوم الجمعة، وأحيانا نتأخر في التحرك من تنومة إلى النماص، فيحل علينا الظلام الدامس قبل الوصول لأنه لا يوجد كهرباء والناس تخلد للراحة في البيوت، ولا تسمع إلا أصوات الكلاب وبعض الحيوانات.
ففي أحد الليالي حالكة الظلام مررنا، وكنا ثلاثة أطفال إلى الغرب من قرى قبائل بني مشهور في طريقنا للنماص مقابل قرية آل أيدي حيث يوجد على يسار الطريق بئر تفيض المياه منها، لغزارة الماء ولوجود عين داخلها فإن اسمها عين آل أيدي.
في تلك الليلة وأثناء مرورنا بالقرب منها سمعنا جلبة أصوات غريبة وأيضا أصوات البقر والغنم، وقد قيل لنا فيما بعد أنها أصوات بعض الجن، وأصبح المكان الآن تغطيه الجسور الجميلة ومحاطا بالمخططات والحدائق وهذا فضل من الله.
وظللنا في الدراسة مع أقراننا من النماص والخضراء وحلباء، وكنا نسمع أحيانا البعض من أبناء النماص يقولون لبعضهم (حدروك في بركة بني روق)، وبني روق هي قرية تبعد عن المدرسة بحوالي ألف وخمسمائة متر، فقررت أنا والبعض من تنومة إلى الشخوص لتلك القرية، فكانت البركة بئر منحوتة، يشاهد الماء فيها على عمق أكثر من أربعين مترا فتحتها العلوية مربعة مساحتها أربعة في أربعة أمتار وهي داخل حرم الجامع الخاص بالقرية، وهذا يدل على قوة وصلابة أهل تلك القرية، ويقال إنه تم حفرها قبل عدة قرون، وإني أدعو المسؤولين عن الآثار في النماص لإعادة تأهيلها والبحث عن تاريخها لتكون أحد المعالم الأثرية لمدينة النماص.
وقد حصلنا على نتائج الكفاءة المتوسطة بواسطة الراديو ، و تم الاحتفال بإطلاق النار من قبل الآباء رحمهم الله.
ما ذكرته من معاناتنا في الماضي هو لتكونوا على اطلاع لما عاناه أسلافكم، لوضع الأساس الصلب لمستقبلكم ومستقبل الأجيال القادمة.
وقد نجحت المملكة العربية السعودية حيث أصبحت في مصاف الدول المتقدمة والسبب هو الاهتمام بالتعليم قبل إنشاء الطرق والبنية التحتية وغيرها، ونتج عن ذلك أنه في مجال الطب قدمنا لبلدنا والعالم ريادة في تعاملنا مع جائحة كوفيد 19، واستطعنا أن نتفوق على أمريكا وأوروبا في السيطرة على فيروس كورونا، حيث قام ستة آلاف طبيب سعودي بمكافحة كورونا في 41 دولة حول العالم ،منهم ألف طبيب في كندا 650 طبيبًا في ألمانيا و280 طبيبًا في فرنسا و300 طبيب في بريطانيا، والبقية موزعون في جميع أنحاء العالم.
وقد عبر بعض السفراء الأوروبيين في المملكة عن امتنانهم للأطباء السعوديين الذين قرروا البقاء في بلدانهم بموافقة المملكة من أجل المساهمة في السيطرة على الفيروس، فكان هذا فخر لكل سعودي في هذه البلاد، وهذا يظهر التطور العلمي لأبناء المملكة على مستوى العالم فهنا قيادة حكيمة وشعب عظيم.. حفظ الله قيادتنا وأمتنا من كل مكروه.
سوف أتحدث عما عايشته بنفسي في تنومة والنماص اللتين كانتا بلدتين صغيرتين وأصبحتا الآن من أكبر محافظات منطقة عسير، ففي بداية ستينيات القرن الماضي لم يكن في تنومة إلا مدرسة ابتدائية واحدة (مدرسة تنومة الابتدائية) لا أدري لماذا تغير اسمها بعد عشرات السنين إلى (مدرسة البخاري)؟
كنت وزملائي الأطفال ندرس فيها، وكانت المعاناة قاسية جدًا سواء داخل فصول المدرسة أم خارجها، ففي المدرسة تتمثل المعاناة في المبنى.
المبني من الحجر والطين بأبوابه ونوافذه الضيقة التي تمنع التهوية الصحية والسقف الذي يسمح بنفاذ مياه الأمطار على رؤوسنا، تنومة معروفة بغزارة وكثرة الأمطار على مدار العام إضافة إلى المعاملة السيئة من المدرسين لقلة في المدرسين السعوديين وكثرة من الجنسيات العربية، وكان أشدهم قساوة الفلسطينيين رغم أن آباءنا في ذلك الوقت يقترون على أنفسهم لتوفير ريالًا يجمع لدعم فلسطين، فقد كانوا يزرعون الكراهية بيننا وبين بعضنا والحمد لله أنهم كانوا قلة في المراحل التالية.
وقد كان الآباء والأمهات يثقون ثقة عمياء بالمدرسة، وكان الضرب في المدرسة هو الوسيلة المثلى للتعامل، إضافة إلى أن الوقت في البيت لا يكفي للمذاكرة والتحضير لليوم الدراسي التالي.. وإني أقدم نفسي كمثال في ذلك وقد أكون أكثر حظًا من غيري، فكنت أستيقظ من النوم قبل صلاة الفجر ثم أصلي للفجر وآخذ البقر المكونة من( أربعة ثيران وبقرتين وأربعة حسلان)، والحسلان هم أبناء البقر آخذ هذه المجموعة، وأمشى بها مسافة تقدر بحوالي ثلاثة كيلو مترات، ثم أتركها لترعى لوحدها وأعود للبيت أتناول جزءًا من خبزة وشاي كفطور، ثم أتوجه للمدرسة.
بعد العودة إلى البيت أتناول وجبة الغداء، ثم أعيد البقر من المكان السابق إلى البيت، ثم إذا فيه وقت أقوم بتقديم الأكل للجمل، وذلك بتلقيمه والبعض من أبناء الجيران زملائي في المدرسة يقوم برعي الغنم بدل الأبقار.
رغم ذلك استطعنا الحصول على الشهادة الابتدائية حيث شكلت لجنة للاختبار في النماص لأربع مدارس مدرسة تنومة ومدرستين بالنماص والرابعة من الخضراء شمال النماص، ثم أتت مرحلة النتائج يتم إعلانها بواسطة الراديو، وعند سماع الأسماء يقوم كل أب بإطلاق النار في الهواء احتفاء بهذه المناسبة.
وبعد الحصول على الشهادة الابتدائية تأتي مرحلة المتوسطة، وهي لا توجد إلا في النماص (مدرسة النماص المتوسطة)، فنكون أبناء تنومة مضطرين للاغتراب لأن المسافة بين تنومة والنماص عبر الطريق القديم الذي يمر وسط القرى حوالي 40 كم، وعليك أن تتصور طفلًا في الاثنتى عشرة من عمره بعيدًا عن أحضان والديه فأصبحنا مغتربين، وكانت المعاناة صعبة رغم المعاملة الطيبة والأبوية من أهالي النماص فالدراسة كانت على مدار الأسبوع ما عدا يوم الجمعة، وكنا نشتاق لرؤية أهلنا فنضطر للذهاب إلى تنومة بعد الدراسة يوم الخميس ركوبًا على الحمير أو مشيًا على الأقدام، ولا نصل إلى تنومة إلا بعد غروب الشمس، ونكون في حالة يرثى لها من شدة التعب والإرهاق، وقد انتفخت أرجلنا من الإجهاد أثناء المشي المستمر، فتقوم كل أم بمساعدة ابنها والدموع تنهمر من عينيها وهي تدعو له أن ينهي المرحلة المتوسطة بنجاح وبصحة جيدة.
نعود يوم الجمعة، وأحيانا نتأخر في التحرك من تنومة إلى النماص، فيحل علينا الظلام الدامس قبل الوصول لأنه لا يوجد كهرباء والناس تخلد للراحة في البيوت، ولا تسمع إلا أصوات الكلاب وبعض الحيوانات.
ففي أحد الليالي حالكة الظلام مررنا، وكنا ثلاثة أطفال إلى الغرب من قرى قبائل بني مشهور في طريقنا للنماص مقابل قرية آل أيدي حيث يوجد على يسار الطريق بئر تفيض المياه منها، لغزارة الماء ولوجود عين داخلها فإن اسمها عين آل أيدي.
في تلك الليلة وأثناء مرورنا بالقرب منها سمعنا جلبة أصوات غريبة وأيضا أصوات البقر والغنم، وقد قيل لنا فيما بعد أنها أصوات بعض الجن، وأصبح المكان الآن تغطيه الجسور الجميلة ومحاطا بالمخططات والحدائق وهذا فضل من الله.
وظللنا في الدراسة مع أقراننا من النماص والخضراء وحلباء، وكنا نسمع أحيانا البعض من أبناء النماص يقولون لبعضهم (حدروك في بركة بني روق)، وبني روق هي قرية تبعد عن المدرسة بحوالي ألف وخمسمائة متر، فقررت أنا والبعض من تنومة إلى الشخوص لتلك القرية، فكانت البركة بئر منحوتة، يشاهد الماء فيها على عمق أكثر من أربعين مترا فتحتها العلوية مربعة مساحتها أربعة في أربعة أمتار وهي داخل حرم الجامع الخاص بالقرية، وهذا يدل على قوة وصلابة أهل تلك القرية، ويقال إنه تم حفرها قبل عدة قرون، وإني أدعو المسؤولين عن الآثار في النماص لإعادة تأهيلها والبحث عن تاريخها لتكون أحد المعالم الأثرية لمدينة النماص.
وقد حصلنا على نتائج الكفاءة المتوسطة بواسطة الراديو ، و تم الاحتفال بإطلاق النار من قبل الآباء رحمهم الله.
ما ذكرته من معاناتنا في الماضي هو لتكونوا على اطلاع لما عاناه أسلافكم، لوضع الأساس الصلب لمستقبلكم ومستقبل الأجيال القادمة.
وقد نجحت المملكة العربية السعودية حيث أصبحت في مصاف الدول المتقدمة والسبب هو الاهتمام بالتعليم قبل إنشاء الطرق والبنية التحتية وغيرها، ونتج عن ذلك أنه في مجال الطب قدمنا لبلدنا والعالم ريادة في تعاملنا مع جائحة كوفيد 19، واستطعنا أن نتفوق على أمريكا وأوروبا في السيطرة على فيروس كورونا، حيث قام ستة آلاف طبيب سعودي بمكافحة كورونا في 41 دولة حول العالم ،منهم ألف طبيب في كندا 650 طبيبًا في ألمانيا و280 طبيبًا في فرنسا و300 طبيب في بريطانيا، والبقية موزعون في جميع أنحاء العالم.
وقد عبر بعض السفراء الأوروبيين في المملكة عن امتنانهم للأطباء السعوديين الذين قرروا البقاء في بلدانهم بموافقة المملكة من أجل المساهمة في السيطرة على الفيروس، فكان هذا فخر لكل سعودي في هذه البلاد، وهذا يظهر التطور العلمي لأبناء المملكة على مستوى العالم فهنا قيادة حكيمة وشعب عظيم.. حفظ الله قيادتنا وأمتنا من كل مكروه.