ما بين مقولة الشاعر والكاتب المسرحي تي اس إليوت في مطلع القرن العشرين: «لقد قمت بقياس حياتي في ملاعق القهوة» وقصائد محمود درويش عن القهوة وتغزله المفرط والدائم بها في أواخر هذا القرن: «وحيدًا أصنع القهوة، وحيدًا أشرب القهوة»، تفتح القهوة صدر رائحتها كعادتها للشعر والأدب والثقافة حتى وصمت به، وأصبحت متلازمة مع الفعل الثقافي والاهتمام به أكثر من غيرها من أدوات المزاج كالشاي والسجائر. ليصبح السؤال عن ارتباط القهوة بالمثقف حاضرًا دائمًا: ما سببه وما حقيقته؟
الحقيقة المهمة خلف ارتباط القهوة بالمثقف لم تكن بسبب الولع بشرب القهوة بحد ذاتها، فمن يخطر على باله مثقف وأديب كبير كنجيب محفوظ ستظهر له صورة ذهنية عرفناه بها: حيث يجلس وأمامه أعقاب سجائره وكأس شاي لا قهوة. هذا المشهد له يستحضره خيالنا وكأننا نراه أمام مائدة معدنية مشغولة بلون ذهبي، خلفه أرائك من الجلد الأخضر، حولها تُحف من العاج والكريستال والخشب، وسط ضجيج حي قاهري جوار مسجد الحسين. مقهى «الفيشاوي» في مصر كان من أشهر المقاهي لتجمع الأدباء والفنانين والمثقفين والسياسيين، وما زال حتى اليوم معلمًا سياحيًّا شهيرًا يعبر به الكثير ليشاهدوا المكان الذي كان يجلس فيه الملك فاروق وأم كلثوم، والعقاد، ونجيب محفوظ وغيرهم. لا فرق إن كان ما تناولوه هناك قهوة أو شاي أسود بالنعناع، فأنت حينما تكون في مقهى الفيشاوي فأنت في حضرة الثقافة. فمن اسم المكان وصفته بدأ ارتباط المثقف بالقهوة، كارتباطه بنتاجه الثقافي أو حراكه السياسي والاجتماعي. من ضمن المقاهي البارزة ثقافيًّا نجد مقهى «دي فلوري» في باريس الذي كان مكانًا لنشاط الفلاسفة سارتر وسيمون دو بوفوار والرسام الشهير بيكاسو، ومقهى «بركوب» في سان جيرمان باريس الذي يجتمع فيه الكتاب كفولتير وهوجو وأوسكار وايلد والعالم ألكسندر فون، ومقهى «انتيكو جريكو» قرب ساحة بيازا دي سبانا في وسط روما الذي كان يرتاده الكاتب يوهان غوته والشعراء ستيندال وآدم ميكيفيتش، أو مقهى «الزهاوي» في بغداد الذي أخذ اسم هذا الشاعر العراقي الكبير وكان يرتاده الرصافي معه، وزاره الشاعر الهندي الشهير طاغور ذات مرة. هذه النخبة المنتقاة من بعض المقاهي حول العالم التي كان يرتادها الأدباء والمثقفين والسياسيين كأسلوب حياة يميل للبساطة ومخالطة الناس والتعمق في أوساطهم ليست إلا أحد الأسباب الوجيهة لربط المثقف بالقهوة حد التندر الذي شاع مؤخرًا عن «احتساء القهوة السوداء» بسبب الانتشار الكبير للمقاهي السريعة في كل شارع وزاوية من المدن مع غياب الفعل الثقافي الرائد الذي عرف من خلالها قديمًا، وكأنه كلما ازداد عدد المقاهي؛ كلما قل عدد المثقفين.
بإعلان وزارة الثقافة السعودية مؤخرًا عن تسمية العام القادم بعام القهوة السعودية كمبادرة تهدف لأن يكون هذا المسمى تجمعًا ثقافيًا واجتماعيًّا واقتصاديًّا تحت مظلة القهوة وتراثها الإنساني غير المادي العميق في وجدان البشر كافة، وفي ذاكرة الفرد السعودي -المثقف وغير المثقف- على وجه الخصوص؛ تعود القهوة وهي تتسيد العام الجديد بحضورها لارتداء جلباب الثقافة والمثقف الذي يتفاوت تعريفه وتصنيفه ويختلف عليه، لتمتد لمجالات مختلفة وأفراد من كل شرائح المجتمع يجتمعون في حب هذه السمراء، وتقاسمهم هي بمختلف أنواعها ونكهاتها تفاصيل حياتهم وذكرياتهم ولقاءتهم بشكل يومي عبر عدد كبير وانتشار ملحوظ للمقاهي، وإقبال كبير من الفئة الشابة عليها. مما يجعل من أي حراك ثقافي مرتقب، ونشاط فني من خلال هذه المقاهي تحت رعاية وزارة الثقافة سببًا في إحياء العهد القديم بين المثقف والمقهى، وخلق أماكن رائدة للنشاط الثقافي قد تُخلد في التاريخ كما خلدت بعض المقاهي المذكورة أعلاه إما لنشاطها الثقافي أو لروادها من المثقفين الفاعلين. لقد بدأت وزارة الثقافة هذه الخطوة مبكرا بعد الإعلان عن «الشريك الأدبي» الذي تضع فيه اشتراطات ومعايير محدده لمشاركة المقاهي حول المملكة في الحركة الثقافية خلال الأشهر الماضية رأينها بطريقة بسيطة وخجولة.
لعل هذه المبادرة بتسمية العام المقبل بعام القهوة السعودية أن يكون كما يتوقع منه لـ «ثقافة القهوة» رافدًا اقتصاديًّا أيضًا عبر «اقتصاد القهوة»، خاصة إن علمنا أن عدد تراخيص إنشاء المقاهي في المملكة تجاوز الثلاثين ألفا حسب آخر إحصائية، ينفق خلالها السعوديون ما يتجاوز المليار والربع على القهوة، ويستورد لها التجار ما يقارب الثمانين ألف طن من البن من دول مختلفة حول العالم.
منذ بضعة أشهر انتشر خبر أقلق مزاج العالم عن تأثر سوق القهوة بالأوضاع الاقتصادية المتدنية إنتاجًا وتصنيعًا وتصديرًا بموجة الصقيع التي ضربت حقول البن البرازيلية والمتسببة في ارتفاع أسعار حبوب الأرابيكا الأكثر جودة وتداولًا والتي تتزعم البرازيل تصدير أكثر من 77% منها وتعاني الآن من نقص حاد في مخزونها منه لم يحدث منذ ستين عام. يعد بن الأرابيكا المرتفع سعره بالوقت الحالي بنحو 80% أجود أنواع البن والأكثر تداولا في العالم، يليه حبوب الروبوستا التي تصدرها فيتنام. لكن ماذا إن أصبح في عام القهوة السعودية البن المستخدم في مقاهيها سعوديا؟ ويصبح الطلب الأكثر في مقاهينا على البن «الخولاني» القادم من جبال بني مالك والريث وهروب في جازان وجبال السودة في عسير، هذه المناطق القابلة لاستزراع المزيد من البن، واستحداث المزارع الخاصة بها في المدرجات الجبلية، وتقديم الدعم المالي من المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال للمواطنين الذين يعملون مسبقًا في زراعة البن بشكل محدود، ومشاركة الجامعات والمعاهد المختصة بعمل الدراسات والأبحاث اللازمة لإنجاح زراعة البن السعودي حتى يصبح اسمًا تتسابق عليه الشركات العالمية كتسابقها على البن البرازيلي والإثيوبي.
كلا الناحيتين الثقافية والاقتصادية للقهوة تلتقي في عراقة المجتمع السعودي الذي يقدم القهوة بأنواع ونكهات مختلفة، ويكرم ضيفه بها، ويراعي مزاجه بتلازمه معها، بل أن جداتنا وأمهاتنا في عسير قديما كانت الواحدة منهن تحمل معها كيسًا من حبوب البن الخضراء عند زيارتها للآخرين قد تضع فوقة بعض المال، كأقصى درجات التقدير والهدية من خلال رعاية مزاج الآخر وذائقته.
الحقيقة المهمة خلف ارتباط القهوة بالمثقف لم تكن بسبب الولع بشرب القهوة بحد ذاتها، فمن يخطر على باله مثقف وأديب كبير كنجيب محفوظ ستظهر له صورة ذهنية عرفناه بها: حيث يجلس وأمامه أعقاب سجائره وكأس شاي لا قهوة. هذا المشهد له يستحضره خيالنا وكأننا نراه أمام مائدة معدنية مشغولة بلون ذهبي، خلفه أرائك من الجلد الأخضر، حولها تُحف من العاج والكريستال والخشب، وسط ضجيج حي قاهري جوار مسجد الحسين. مقهى «الفيشاوي» في مصر كان من أشهر المقاهي لتجمع الأدباء والفنانين والمثقفين والسياسيين، وما زال حتى اليوم معلمًا سياحيًّا شهيرًا يعبر به الكثير ليشاهدوا المكان الذي كان يجلس فيه الملك فاروق وأم كلثوم، والعقاد، ونجيب محفوظ وغيرهم. لا فرق إن كان ما تناولوه هناك قهوة أو شاي أسود بالنعناع، فأنت حينما تكون في مقهى الفيشاوي فأنت في حضرة الثقافة. فمن اسم المكان وصفته بدأ ارتباط المثقف بالقهوة، كارتباطه بنتاجه الثقافي أو حراكه السياسي والاجتماعي. من ضمن المقاهي البارزة ثقافيًّا نجد مقهى «دي فلوري» في باريس الذي كان مكانًا لنشاط الفلاسفة سارتر وسيمون دو بوفوار والرسام الشهير بيكاسو، ومقهى «بركوب» في سان جيرمان باريس الذي يجتمع فيه الكتاب كفولتير وهوجو وأوسكار وايلد والعالم ألكسندر فون، ومقهى «انتيكو جريكو» قرب ساحة بيازا دي سبانا في وسط روما الذي كان يرتاده الكاتب يوهان غوته والشعراء ستيندال وآدم ميكيفيتش، أو مقهى «الزهاوي» في بغداد الذي أخذ اسم هذا الشاعر العراقي الكبير وكان يرتاده الرصافي معه، وزاره الشاعر الهندي الشهير طاغور ذات مرة. هذه النخبة المنتقاة من بعض المقاهي حول العالم التي كان يرتادها الأدباء والمثقفين والسياسيين كأسلوب حياة يميل للبساطة ومخالطة الناس والتعمق في أوساطهم ليست إلا أحد الأسباب الوجيهة لربط المثقف بالقهوة حد التندر الذي شاع مؤخرًا عن «احتساء القهوة السوداء» بسبب الانتشار الكبير للمقاهي السريعة في كل شارع وزاوية من المدن مع غياب الفعل الثقافي الرائد الذي عرف من خلالها قديمًا، وكأنه كلما ازداد عدد المقاهي؛ كلما قل عدد المثقفين.
بإعلان وزارة الثقافة السعودية مؤخرًا عن تسمية العام القادم بعام القهوة السعودية كمبادرة تهدف لأن يكون هذا المسمى تجمعًا ثقافيًا واجتماعيًّا واقتصاديًّا تحت مظلة القهوة وتراثها الإنساني غير المادي العميق في وجدان البشر كافة، وفي ذاكرة الفرد السعودي -المثقف وغير المثقف- على وجه الخصوص؛ تعود القهوة وهي تتسيد العام الجديد بحضورها لارتداء جلباب الثقافة والمثقف الذي يتفاوت تعريفه وتصنيفه ويختلف عليه، لتمتد لمجالات مختلفة وأفراد من كل شرائح المجتمع يجتمعون في حب هذه السمراء، وتقاسمهم هي بمختلف أنواعها ونكهاتها تفاصيل حياتهم وذكرياتهم ولقاءتهم بشكل يومي عبر عدد كبير وانتشار ملحوظ للمقاهي، وإقبال كبير من الفئة الشابة عليها. مما يجعل من أي حراك ثقافي مرتقب، ونشاط فني من خلال هذه المقاهي تحت رعاية وزارة الثقافة سببًا في إحياء العهد القديم بين المثقف والمقهى، وخلق أماكن رائدة للنشاط الثقافي قد تُخلد في التاريخ كما خلدت بعض المقاهي المذكورة أعلاه إما لنشاطها الثقافي أو لروادها من المثقفين الفاعلين. لقد بدأت وزارة الثقافة هذه الخطوة مبكرا بعد الإعلان عن «الشريك الأدبي» الذي تضع فيه اشتراطات ومعايير محدده لمشاركة المقاهي حول المملكة في الحركة الثقافية خلال الأشهر الماضية رأينها بطريقة بسيطة وخجولة.
لعل هذه المبادرة بتسمية العام المقبل بعام القهوة السعودية أن يكون كما يتوقع منه لـ «ثقافة القهوة» رافدًا اقتصاديًّا أيضًا عبر «اقتصاد القهوة»، خاصة إن علمنا أن عدد تراخيص إنشاء المقاهي في المملكة تجاوز الثلاثين ألفا حسب آخر إحصائية، ينفق خلالها السعوديون ما يتجاوز المليار والربع على القهوة، ويستورد لها التجار ما يقارب الثمانين ألف طن من البن من دول مختلفة حول العالم.
منذ بضعة أشهر انتشر خبر أقلق مزاج العالم عن تأثر سوق القهوة بالأوضاع الاقتصادية المتدنية إنتاجًا وتصنيعًا وتصديرًا بموجة الصقيع التي ضربت حقول البن البرازيلية والمتسببة في ارتفاع أسعار حبوب الأرابيكا الأكثر جودة وتداولًا والتي تتزعم البرازيل تصدير أكثر من 77% منها وتعاني الآن من نقص حاد في مخزونها منه لم يحدث منذ ستين عام. يعد بن الأرابيكا المرتفع سعره بالوقت الحالي بنحو 80% أجود أنواع البن والأكثر تداولا في العالم، يليه حبوب الروبوستا التي تصدرها فيتنام. لكن ماذا إن أصبح في عام القهوة السعودية البن المستخدم في مقاهيها سعوديا؟ ويصبح الطلب الأكثر في مقاهينا على البن «الخولاني» القادم من جبال بني مالك والريث وهروب في جازان وجبال السودة في عسير، هذه المناطق القابلة لاستزراع المزيد من البن، واستحداث المزارع الخاصة بها في المدرجات الجبلية، وتقديم الدعم المالي من المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال للمواطنين الذين يعملون مسبقًا في زراعة البن بشكل محدود، ومشاركة الجامعات والمعاهد المختصة بعمل الدراسات والأبحاث اللازمة لإنجاح زراعة البن السعودي حتى يصبح اسمًا تتسابق عليه الشركات العالمية كتسابقها على البن البرازيلي والإثيوبي.
كلا الناحيتين الثقافية والاقتصادية للقهوة تلتقي في عراقة المجتمع السعودي الذي يقدم القهوة بأنواع ونكهات مختلفة، ويكرم ضيفه بها، ويراعي مزاجه بتلازمه معها، بل أن جداتنا وأمهاتنا في عسير قديما كانت الواحدة منهن تحمل معها كيسًا من حبوب البن الخضراء عند زيارتها للآخرين قد تضع فوقة بعض المال، كأقصى درجات التقدير والهدية من خلال رعاية مزاج الآخر وذائقته.