عيادة مريض امتدت لثلاث ساعات أو أكثر، كانت خلف ظهور هذه السطور، وسبباً رئيسا لكتابة هذا المقال.. هذا المريض هو أحد الزملاء السابقين الذين عملت معهم في إخراج بعض البرامج الإذاعية، التي كان يعدها ويقدم حلقاتها، ومن ثم بثها من خلال أثير إذاعة جدة. وعكة صحية غير متوقعه ألمت به جعلته طريح الفراش، والزيارة التي أنا بصدد الحديث عنها هي الأولى من نوعها بالنسبة لي لمنزل هذا الزميل في سياق التواصل الشخصي بعد هذه الحادثة، فتواصلنا غالباً ما كان يتم عبر الهاتف أو من خلال وسائل التواصل الأخرى.
لقد أثرت في نفسي ظروف هذه الزيارة بصورة كبيرة، فأثارت شجوني التي فاضت ودفعت بي لكتابة هذا المقال، وأعتبرها إحدى الدروس المجانية التي أتلقاها في مدرسة الحياة، الزميل العزيز سُر كثيراً جداً لحضوري إليه، وبصورة لم أكن أتوقعها أنا شخصياً، راغباً في تكرارها مرة أخرى، إن سمحت الظروف إن شاء الله.
فعلى الفترة الزمنية الطويلة التي مكثت فيها عنده، إلا أنه لم يكن يود السماح لي بالمغادرة، قابضاً على معصمي وشاداً كف يدي اليمنى بقوة، السعادة كانت بادية على وجهه وعينيه اللتين كانتا مملؤتين حزناٌ بشكل مبالغ فيه، كنت أستشعر سكناته وهو يتمالك نفسه حتى لا تنزلق الدمعة التي رأيتها تتهادى في عينيه، سريرته الطيبة باحت لي بأحاديث كثيرة قديمة عن الإذاعة ورجالاتها، حدثني عن حقبة زمنية مضت قاربت السبعين عاماً.
ما أود قوله بعد هذه المقدمة المطولة، هو أن الحياة على اتساعها لا يتوقف عطاؤها بتوقف عطاء الآخرين، والمشاعر الإنسانية لن تجف إذا ما جفت لدى فرد أو إثنين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، هي أكبر وأجل من أن تحصر في شخوص وأفراد سلبيين، من المجحف حقاً أن ينهي الإنسان علاقتة بالآخرين،وقد امتدت هذه العلاقة لفترة زمنية طويلة، من الظلم أن يسقطها الإنسان من قاموسه لأسباب صغيرة، وإن خابت ظنونه الإيجابية بهم.
العلاقات التي تنشأ حسب ظروف العمل يجب ألا تنتهي بانتهاء هذه الظروف، ليس من العقل ولا الحكمة أن ينهي الإنسان صلته بالآخرين وقد امتدت هذه الصلة لعشرات السنين لمجرد الانتهاء من العمل الوظيفي بالتقاعد أو العجز أو لأي سبب آخر. في رأيي المتواضع أنه ليس من السهل تجاوز مرحلة عمرية في حياة الإنسان، هي الفترة الزمنية التي قضاها في المجال الوظيفي بهذه السهولة، فيطوي صفحة مهمة من حياته طي النسيان، هي من أطول مراحل حياته، ثم يعزو سبب ذلك التجاوز إلى الانشغال وإلى أحداث عارضة أو مواقف عابرة طرأت عفوياً في تلك المرحلة منعته من الاستمرارية في تكوين علاقات طويلة الأمد مع زملاء المهنة بعد فك الارتباط الوظيفي، وبدعوى أن منشأ العلاقة في الأساس كان شكلا عرضيا سببه العمل.
وبالتالي لا يشترط في مثل هذه العلاقات أن تأخذ طابع الاستمراراية، ولا أن تنال صفة الديمومة خارج إطار العمل، بل يكتفى بما تم من علاقات وقتية في تلك الفترة، دون التعمق فيها بأي شكل من الأشكال، وأن العلاقات التي أوجدتها الصدف سوف تمحى أيضا بظروف هذه الصدف، وهذا لا شك غير صحيح. فالعلاقات الصادقة لا تغتال بهذه الصورة، هذا رأيي الشخصي، ولا تنهيها الاختلافات الصغيرة، نعم قد تتباين أرآؤنا، وقد تختلف وجهات النظر.
تأخذنا الدنيا بمشاغلها، تلهينا بزخارفها، لكن هذا التباين وذلك الاختلاف، وذاك الانشغال ليس مدعاة لإنهاء العلاقة ولا مبرراً في عدم السؤال عن الآخرين، ألا أن يؤدي هذا التواصل إلى أمر جلل، هكذا علمتني الحياة.
على مدى الثلاثين عاما الماضية، وهي مسيرتي المهنية التي أمضيتها في استديوهات وردهات ودهاليز وأروقة إذاعة جدة بمبنيها القديم والحديث، صادفت خلالها العديد من الزملاء الرائعين بل الرائعين جداً، من مختلفي السجايا ومتعددي الطباع، منهم من أصبح اليوم من أعز الأصدقاء الذين أتعامل معهم خارج نطاق العمل، وأتواصل معهم بعيداً عن أسوار المبنى،و منهم من لا تزال علاقتي الشخصية بهم قائمة إلى هذه اللحظة، حتى بعد أن ترك كثير منهم العمل في الإذاعة، وحتى بعد أن أحيل جزء كبير منهم إلى التقاعد ببلوغهم السن القانونية، وغدوا فجأة (وفق أقوال بعض منهم) في مصاف من يطلق عليهم زوراً وبهتاناً منتهي الصلاحية.
ومن الزملاء مع كل أسف من يرفض مواصلة تلك العلاقة، فقطع كل وسائل التواصل التي يمكن الوصول بها إليه، آثر التقوقع بين أحضان تبعات وظروف هذه المرحلة الصعبة.
هناك عبارات نسمعها ويرددها بعض الزملاء الذين انقطعت صلتهم بالآخرين، بعد انقطاع مبرر عن العمل، في هذه العبارات إشارة إلى أن العمل هو الرابط الوحيد الذي يؤصل لهذه العلاقة،وبإنتهاء العلاقة مع العمل تنتهي العلاقة مع الزملاء أيضا وتتوقف الصلة بهم، في حين أن أولئك المنقطعين كانوا في السابق من المقربين جداً للجميع يوم أن كانوا على رأس العمل.
بعض من هؤلاء هم في أمس الحاجة للتواصل والسؤال عنهم وتفقد أحوالهم، ربما تكالبت على أحدهم النوائب والمصائب دون أن يشعر به أحد من زملاء المهنة مع كل أسف، وربما مرض أو اعتل ولم يعده أو يزره سوى الشخص والشخصين، بل ربما دنى أجله أو قضى نحبه، ولم يعلم بذلك إلا القليل.
لقد أثرت في نفسي ظروف هذه الزيارة بصورة كبيرة، فأثارت شجوني التي فاضت ودفعت بي لكتابة هذا المقال، وأعتبرها إحدى الدروس المجانية التي أتلقاها في مدرسة الحياة، الزميل العزيز سُر كثيراً جداً لحضوري إليه، وبصورة لم أكن أتوقعها أنا شخصياً، راغباً في تكرارها مرة أخرى، إن سمحت الظروف إن شاء الله.
فعلى الفترة الزمنية الطويلة التي مكثت فيها عنده، إلا أنه لم يكن يود السماح لي بالمغادرة، قابضاً على معصمي وشاداً كف يدي اليمنى بقوة، السعادة كانت بادية على وجهه وعينيه اللتين كانتا مملؤتين حزناٌ بشكل مبالغ فيه، كنت أستشعر سكناته وهو يتمالك نفسه حتى لا تنزلق الدمعة التي رأيتها تتهادى في عينيه، سريرته الطيبة باحت لي بأحاديث كثيرة قديمة عن الإذاعة ورجالاتها، حدثني عن حقبة زمنية مضت قاربت السبعين عاماً.
ما أود قوله بعد هذه المقدمة المطولة، هو أن الحياة على اتساعها لا يتوقف عطاؤها بتوقف عطاء الآخرين، والمشاعر الإنسانية لن تجف إذا ما جفت لدى فرد أو إثنين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك، هي أكبر وأجل من أن تحصر في شخوص وأفراد سلبيين، من المجحف حقاً أن ينهي الإنسان علاقتة بالآخرين،وقد امتدت هذه العلاقة لفترة زمنية طويلة، من الظلم أن يسقطها الإنسان من قاموسه لأسباب صغيرة، وإن خابت ظنونه الإيجابية بهم.
العلاقات التي تنشأ حسب ظروف العمل يجب ألا تنتهي بانتهاء هذه الظروف، ليس من العقل ولا الحكمة أن ينهي الإنسان صلته بالآخرين وقد امتدت هذه الصلة لعشرات السنين لمجرد الانتهاء من العمل الوظيفي بالتقاعد أو العجز أو لأي سبب آخر. في رأيي المتواضع أنه ليس من السهل تجاوز مرحلة عمرية في حياة الإنسان، هي الفترة الزمنية التي قضاها في المجال الوظيفي بهذه السهولة، فيطوي صفحة مهمة من حياته طي النسيان، هي من أطول مراحل حياته، ثم يعزو سبب ذلك التجاوز إلى الانشغال وإلى أحداث عارضة أو مواقف عابرة طرأت عفوياً في تلك المرحلة منعته من الاستمرارية في تكوين علاقات طويلة الأمد مع زملاء المهنة بعد فك الارتباط الوظيفي، وبدعوى أن منشأ العلاقة في الأساس كان شكلا عرضيا سببه العمل.
وبالتالي لا يشترط في مثل هذه العلاقات أن تأخذ طابع الاستمراراية، ولا أن تنال صفة الديمومة خارج إطار العمل، بل يكتفى بما تم من علاقات وقتية في تلك الفترة، دون التعمق فيها بأي شكل من الأشكال، وأن العلاقات التي أوجدتها الصدف سوف تمحى أيضا بظروف هذه الصدف، وهذا لا شك غير صحيح. فالعلاقات الصادقة لا تغتال بهذه الصورة، هذا رأيي الشخصي، ولا تنهيها الاختلافات الصغيرة، نعم قد تتباين أرآؤنا، وقد تختلف وجهات النظر.
تأخذنا الدنيا بمشاغلها، تلهينا بزخارفها، لكن هذا التباين وذلك الاختلاف، وذاك الانشغال ليس مدعاة لإنهاء العلاقة ولا مبرراً في عدم السؤال عن الآخرين، ألا أن يؤدي هذا التواصل إلى أمر جلل، هكذا علمتني الحياة.
على مدى الثلاثين عاما الماضية، وهي مسيرتي المهنية التي أمضيتها في استديوهات وردهات ودهاليز وأروقة إذاعة جدة بمبنيها القديم والحديث، صادفت خلالها العديد من الزملاء الرائعين بل الرائعين جداً، من مختلفي السجايا ومتعددي الطباع، منهم من أصبح اليوم من أعز الأصدقاء الذين أتعامل معهم خارج نطاق العمل، وأتواصل معهم بعيداً عن أسوار المبنى،و منهم من لا تزال علاقتي الشخصية بهم قائمة إلى هذه اللحظة، حتى بعد أن ترك كثير منهم العمل في الإذاعة، وحتى بعد أن أحيل جزء كبير منهم إلى التقاعد ببلوغهم السن القانونية، وغدوا فجأة (وفق أقوال بعض منهم) في مصاف من يطلق عليهم زوراً وبهتاناً منتهي الصلاحية.
ومن الزملاء مع كل أسف من يرفض مواصلة تلك العلاقة، فقطع كل وسائل التواصل التي يمكن الوصول بها إليه، آثر التقوقع بين أحضان تبعات وظروف هذه المرحلة الصعبة.
هناك عبارات نسمعها ويرددها بعض الزملاء الذين انقطعت صلتهم بالآخرين، بعد انقطاع مبرر عن العمل، في هذه العبارات إشارة إلى أن العمل هو الرابط الوحيد الذي يؤصل لهذه العلاقة،وبإنتهاء العلاقة مع العمل تنتهي العلاقة مع الزملاء أيضا وتتوقف الصلة بهم، في حين أن أولئك المنقطعين كانوا في السابق من المقربين جداً للجميع يوم أن كانوا على رأس العمل.
بعض من هؤلاء هم في أمس الحاجة للتواصل والسؤال عنهم وتفقد أحوالهم، ربما تكالبت على أحدهم النوائب والمصائب دون أن يشعر به أحد من زملاء المهنة مع كل أسف، وربما مرض أو اعتل ولم يعده أو يزره سوى الشخص والشخصين، بل ربما دنى أجله أو قضى نحبه، ولم يعلم بذلك إلا القليل.