حسين مروة

صحيح أن القدر المتداول من تراثنا العقلي ليس ذا حظ عظيم من الثراء أو العمق أو السعة أو الأصالة، ولكن هذا القدر نفسه، على الرغم من أنه الجزء الأضعف من تراثنا، تلتمع في بعض جوانبه قبسات باهرة تكشف بالبداهة أن وراءها خصباً قوياً في التربة الفكرية وطاقة هائلة للإبداع، وأصالة عريقة قابلة للامتداد والشمول والتعميق، كما تكشف – بالوقت نفسه – عن هذا الخصب وهذه الطاقة، لا يمكن أن تمر بهما حركة التاريخ من غير أن تدفعهما للإنتاج بأكثر مما نرى.. نعم، نحن لا نشك أن الدولة العربية في أدوار مختلفة قد حالت بين الفكر العربي هذا وبين أن تتهيأ له أسباب الإنتاج كلها، من حرية وتسامح ورعاية وحماية وذلك لا يتناقض مطلقا مع ما استنتجناه أولا، من كون ذوي السلطان في الدولة العربية كانوا يعرفون قدر الفكر ويفهمون الدور العظيم الذي يمكن أن يؤديه في المجتمع، بل الأمر على العكس فإنه من طبيعة تقديرهم لشأن الفكر وفهمهم لدوره في دعم حركة التطور والتقدم الدائرة دون توقف.

ولذلك يمكن القول بأن طاقات الفكر العربي قد ظلت، حتى في أزهى عصور الإنتاج العقلي مكبوتة لا تعطي كل ما لديها من زخم وقدرة على العطاء لأنه لم يكن يتيسر لها دائما من وسائل ما يدعها تعمل في ميادينها وفق حركة إبداعها ونشاطها كما تشاء.

وهنا ننتقل إلى نقطة مهمة في الموضوع فيسأل سائل ترى، ألم يكن في الفكر العربي آنذاك نماذج من العمالقة لا تمنعهم القوة ولا يحول الإرهاب والاضطهاد دون أن يبدعوا كبار الأعمال الفكرية كما حدث في مراحل كثيرة من تاريخ الفكر البشري؟..

ونجيب عن ذلك بأن أمثال هؤلاء العمالقة لم يخل منهم تاريخ الفكر العربي، فقد كانوا في كل عصر من عصور العربية وكان لهم ألوان من الإبداع العقلي، ولكن الإرهاب في بعض تلك العصور إذا لم يستطع أن يمنع أولئك العمالقة عن أن يبدعوا فإنه قد حال دون أن يصل إبداعهم إلى الناس وإلى الأجيال من بعدهم، ولقد حدث في تاريخ الفكر العربي أن طمست أسماء أعلام كبار، وطمست آثار آخرين فلم يطلع عليها إلا قلة من الناس في زمنهم فإذا أضفنا إلى هذا ما صنعته موجات الطغاة الأجانب الذين اجتاحوا أرض الحضارة العربية كالتتار والمغول وجيوش الأتراك والصليبيين على مراحل متعاقبة من التاريخ، استطعنا أن ندرك حقيقة كبيرة هي أن الفكر العربي لو أنه لم يكن من قوة الخصب والإنتاج بحيث أبدع في العصور المؤاتية القليلة تراثا ضخما رائعا، لما كان انتهى إلينا منه هذا القدر الذي تحفل به خزائن الفلسفة والعلم والأدب في العالم الآن. موجة كموجة التتار التي اجتاحت بغداد ذات يوم في التاريخ كافية وحدها أن تلتهم كل ما أنجبه الفكر العربي في عهود الدولة العباسية، ولكن رغم ذلك ورغم موجات الطغيان الأخرى التي تعرضت لها معاقل الفكر العربي في مراحل أخرى من الزمن بقي لنا من تراث هذا الفكر ما نعرف جميعا، وتعرف المدنية الأوروبية نفسها أنه أدى للحضارة البشرية فضل الاستمرار في سبيل التقدم من غير انقطاع، وقد كانت هذه الحضارة مهددة بالانقطاع فعلا والابتداء من أول الطريق لو أن الفكر العربي لم يؤد دوره العظيم هذا، وعلينا أن نتصور أية فاجعة كانت تصيب الإنسان لو أنه قضي عليها أن تبدأ سلسلة الحضارة من أولى حلقاتها.

حقا يجب علينا حين نرتاب بقيمة التراث الفكري العربي الذي وصل إلينا من خلال الأجيال الغابرة أن نستحضر بأذهاننا هذه الصورة التاريخية الرهيبة التي تحدثنا بها أوثق مراجع التاريخ عن فعلة التتار والمغول يوم قذفوا إلى المياه والنيران بكنوز الفكر الإنساني التي كانت تحتشد بها مكتبات بغداد وغيرها من العواصم والحواضر الفكرية في بلاد العرب.

*1955

*كاتب وباحث لبناني «1910-1987»